دستور 1953: العسكر يتحدثون باسم الشعب ويلغون ممثليه
«إن رئيس الدولة بناء على الأمر العسكري رقم 2 المؤرخ في 3 كانون الأول 1951، وعلى المرسوم التشريعي رقم 257 المؤرخ في 8 حزيران 1952 المتضمنين تنظيم السلطات العامة، وبناء على قرار المجلس العسكري الأعلى المبلغ إلى رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء بكتابه المؤرخ في 16/6/1953، والمتضمن تكليف مجلس الوزراء باستفتاء الشعب في مشروع الدستور المقدم من المجلس العسكري الأعلى واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، وبناء على قرار مجلس الوزراء رقم 504 وتاريخ 21/6/1953 يرسم مايلي…»
من المرسوم التشريعي رقم 151 الذي أصدره أديب الشيشكلي ليحيل نص دستور 1953 إلى الاستفتاء العام
في أواخر الحقبة العثمانية نجحت السلطة العثمانية في قلب الاقتصاد السياسي للدولة من خلال ما سمي بالتنظيمات. أنتجت هذه التنظيمات تحولاً جذرياً في بنية المجتمع لصالح شبكات من الأعيان المحليين الذين تم تحويرهم من قوى مناهضة للدولة إلى بيروقراطيين تربطهم بالدولة مصالح مباشرة.
ارتبط هؤلاء بشبكات من المصالح البينية العابرة للأطر الإقليمية المحدودة من خلال التنقل في الوظائف، ولعب دور الوسيط بين المجتمعات المحلية وحواملها المجتمعية والاقتصادية مع مركزية السلطة.
أولئك شكلوا الرعيل الذي قاد الدولة السورية منذ إعلان استقلالها الأول في العام 1918 وحتى استقلالها الثاني العام 1947. أمسكوا زمام الأمور لكونهم الوحيدين القادرين على إدارة البيروقراطية الهشة للدولة الناشئة، والتوسط بين المركز والمحليات.
لم تكن هناك حوامل أخرى قادرة على تنظيم الفعل السياسي الواقعي بمعنى إدارة علاقة الدولة بالمجتمع، وليس السياسي بمعناه الإيديولوجي الذي صار يحلم بمشاريع لا حوامل مجتمعية لها.
بقيت مساحة المجتمع المدني معرفة بشبكات المحسوبيات المحلية، وقدرتها على اختراق حاجز الوصول إلى المركز عن طريق الوساطات عبر الأعيان.
لم تتشكل أحزاب فعلية بمعنى تجمعات منظمة تضم كتلاً بشرية، ومصالح متناقضة تتطلب الموازنة بينها ضمن آليات حزبية تنبع من احتياجات القواعد.
لم تشكل النقابات بوصفها كتل ضغط فعلية على الأحزاب السياسية، أو البرلمان. ولم تستطع التنظيمات المدنية الأخرى تجاوز حدود العمل الخيري الأهلي.
وبرغم بعض الأمثلة المتميزة من النشاط الأهلي في بعض المدن لتمويل بعض البنى التحتية الأساسية (مثل عين الفيجة في دمشق) فإن حيز العمل المدني بقي ضحلاً، ومرتبطاً أساساً بمصالح الأعيان ودورهم الرمزي والاقتصادي.
المساحة الوحيدة لتحريك المجتمع من القاعدة كانت الإعلام الذي لعب دوراً جوهرياً في تحريك القواعد الشبابية للبرجوازيات المدينية. في ما عدا ذلك فإن نسبة كبرى من السكان كانت أمية، وتكاد منابر الجوامع تكون المنصة الوحيدة القادرة على تحريكها.
استمر الأعيان في تخيل إطار عام للسياسة يحكمه موقعهم التقليدي بوصفهم وسطاء بين المجتمع وسلطة الدولة، ولم يطوروا حوامل سياسية حقيقية. ومن خلال موقعهم المتميز اختاروا للجيل اللاحق من أبنائهم الاستمرار في أداء تلك الوظيفة الاجتماعية الأساسية.
ورغم بعض العمل الجاد لتنظيم الماكينات الانتخابية للأحزاب، فإن معادلة الاقتصاد السياسي الأساسية التي اعتمدوها لم تتغير في العمق بعد الاستقلال، ولضمان استقرار قبضتها على الاقتصاد السياسي للبلاد لم تبنِ النخب السياسية منظومات حزبية حقيقية قادرة على فعلين سياسيين أساسيين:
الفعل الأول بناء هوية سياسية ذات قوة كافية لضمان استمرار تشكيل الحكومات، واستمرار عملها، والثاني هو تحريك الشارع للدفاع عن تلك الهوية حين تتعرض للخطر.
كان احتياج الدولة الناشئة كبيراً إلى كوادر بيروقراطية جديدة في صفوف الإدارة والجيش، ولم ير أعيان المدن ضرورة السيطرة عليها مباشرة، فتركوا للجيل الشاب من البرجوازيات الصغرى، ومن الأرياف مساحة تقدم لم تكن متاحة قبل ذلك.
سرعان ما ولدت تلك المساحة حوامل جديدة للمطالبة باستحقاقات اقتصادية وسياسية لدور الجيل الجديد.
واجهت الدولة السورية تحديات عديدة لبناء مؤسساتها بسبب عجزها المالي، ليس لأنها لا تملك ما يكفي من الموارد، بل لعجز الحكومة عن إرساء معادلة ضريبية واضحة ومقبولة.
كان أحد أثمان الاستقلال التي دفعها الأعيان بموجب اتفاقية الجلاء هو التخلي عن حصة سوريا من المخزون الذهبي الذي ساهمت فيه الدولة السورية عبر مصرف سوريا ولبنان (القائم بدور المصرف المركزي) في ما يخص إدارة النقد.
كان على الدولة السورية أن تبني احتياطياً جديداً من الذهب لدعم عملتها. وتطلب بناء ذلك الاحتياطي اقتراضات كبيرة على امتداد سنوات بضمانة عائدات الدولة الضريبية المستقبلية، عائدات لم يتفق الأعيان في ما بينهم على محلها الضريبي: أيكون على الفعاليات الاقتصادية الرأسمالية الناشئة؟ أم على العقارات والأراضي والإنتاج الزراعي؟
لم يستطع برلمان الأعيان أن يبت في الأمر، ولم يستطع حتى أن يضمن استقرار أي تشكيلة حكومية لمدة تزيد عن بضعة أيام، أو أسابيع، أو أشهر في الحد الأقصى.
فوضى السياسيين لم تستطع أن توفر الموارد اللازمة لبناء بيروقراطية فعلية، ولم تستطع أن تسلح الجيش، وتدفع رواتب عناصره، ولم تستطع أن تضمن القروض اللازمة لبناء احتياطي الذهب وضمان الاستقرار النقدي.
في خضم الفوضى السياسية التي غرق فيها الأعيان لم يكن هناك من حامل مؤسساتي ثابت وقادر على ضمان بناء الدولة ومؤسساتها (وخاصة منها الاقتصادية) سوى الجيش.
بعد الانقلاب الثالث الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي صار الجيش واعياً لدوره السياسي، ولإمكاناته الفعلية. تعامل الشيشكلي مع السلطة بحذر شديد. لم يضع نفسه في واجهة المشهد مقدماً في الواجهة الزعيم فوزي السلو، إلى أن استقر الأمر، فقرر الظهور إلى الواجهة، وحل البرلمان.
سارع الشيشكلي إلى بناء تحالفات جديدة مع قيادات شابة ملت من الانتظار على أبواب حزب الشعب، والحزب الوطني، وأنشأ تشكيلته الحزبية الخاصة. كما قرب عدداً من القيادات الرأسمالية الجديدة (الأعيان الجدد الذين أدركوا محدودية الزراعة بوصفها حاملاً اقتصادياً للدولة الناشئة، وتحولوا إلى الصناعة، والمصارف، والتجارة، وحتى في مجال الزراعة تحولوا إلى مكننة الزراعة، والتعامل معها كصناعة ممنهجة).
أنشئ المصرف المركزي السوري وفق قانون جديد بالتعاون مع القيادات الرأسمالية الجديدة، واقترضت الدولة على مدى ثلاث سنوات ما كان كافياً لتأسيس أول احتياطي حقيقي من الذهب.
صاغ الشيشكلي دستوراً جديداً متجاوزاً الخلافات التقليدية حول أسئلة الهوية التي خاضها أعضاء الهيئة التأسيسية عند صياغة دستور العام 1950. حافظ على المعادلات الوسيطة في ما يخص الهوية، من دون أن يفتح الباب لمجابهة جديدة مع القوى المجتمعية، المحافظة والليبرالية على حد سواء، واستبق نص الدستور بأقصر ديباجة ممكنة تختزل كل التوافقات الهوياتية السابقة بما لا يزيد عن بضعة أسطر، وكرس في الدستور الجديد دوراً مستقلاً للرئيس بجعله منتخباً مباشرة من الشعب، ويخوّله تشكيل الوزارة متجاوزاً بذلك النموذج البرلماني التقليدي نحو التجربة الوحيدة في التاريخ السوري الحديث لتأسيس نظام رئاسي صرف. لكنه – وحفاظاً على اللغة المعتمدة في الدساتير السورية السابقة – أصر على تسمية نظام الحكم بمسمى النظام البرلماني.
تعلم العسكر للمرة الأولى أن يديروا تناقضات المجتمع السوري، وأن يجمعوا الأضداد المنطقية في صياغات لغوية فارغة المضمون. وتعلموا أن يبنوا تحالفات جديدة مع القوى والقيادات المجتمعية المناوئة للأعيان التقليديين، من خلال عملية توازن قلقة بين المصالح الاقتصادية للأعيان الجدد، والطبقات البرجوازية الناشئة.
ما لم يتقنه الشيشكلي هو إدارة ولاء قيادات الجيش ذاتها. وفي غياب الحوامل السياسية الأخرى صار رأس الهرم مكشوفاً أمام مؤسسته من الداخل، وواجه في العام 1954 تحديه الكبير بحراك عسكري من وحدات عسكرية بعيدة في حلب لم تكن خاضعة لمراقبة قيادة الجيش (جميع الانقلابات السابقة جاءت من وحدات مرابضة في الجنوب وعلى الحدود).
لم يكن هناك انقلاب عسكري بالمعنى الحقيقي (ما عُرف بانقلاب مصطفى حمدون)، وإنما تحرك لقطعات عسكرية من الشمال كانت ستغرق البلاد في حالة حرب داخلية فضل الشيشكلي ألا يخوضها، وغادر البلاد.
لم يملك العسكريون الذين قادوا الحراك ما يكفي من القوة والوحدة السياسية لاستلام الحكم، فأعادوه إلى البرلمان السابق والرئيس هاشم الأتاسي بدوره الأخلاقي والرمزي.
فشل أول نظام رئاسي مبني على حامل المؤسسة العسكرية في تأسيس سلطة دستورية مستدامة متمثلة بدور الرئيس، لكن النموذج لم يمت. وبعد إخفاق المدنيين من جديد في تكريس حكومة مستقرة، وتوافق حول سلطة البرلمان، حاول العسكر تشكيل تحالفات جديدة مهددين بانقلابات، واغتيالات، وتدخل سافر في القضايا السياسية.
لم يستطع العسكر الاتفاق على مركز ثقل واحد، وفشل المدنيون في الموازنة بين مصالح البرجوازيات الناشئة ومصالح الأعيان، وبات المخرج الوحيد هو الهروب إلى حضن عبد الناصر.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري