اللجنة الدستورية.. ماذا عن حقوق السوريين وحرياتهم؟
تعتبر الحقوق والحريات العامة من المواضيع المهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وحيث إنها من المشاكل الاجتماعية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسائل القانونية والسياسية كونها تقدم صورة للإنسان في المجتمع وللمواطن في مواجهة السلطة السياسية، لذا يمكن اعتبارها من الاستحقاقات السياسية التي يعود أمر تنظيمها وتقنينها إلى مؤسسات الدولة باعتبارها مجموعة من الرخص والإباحات التي يعترف بها القانون للمواطنين مما يولِّد حقاً قانونياً يستلزم معه اعتراف الدولة لمواطنيها بممارسة العديد من الأنشطة المحدَّدة بالدستور والقانون.
الحقوق والحريات العامّة بابٌ من أبواب الدساتير السورية، توسعت وتشعبت موادها في بعض الدساتير وأُوجزت في البعض الآخر، وليس ذلك بالضرورة أن يجعلها ميزةً للأولى وعيباً للأخيرة، إذ إن دستور عام 1920 قد أوردها مجملةً ضِمن عددٍ قليلٍ جداً من مواده نتيجة عدم تبلور هذه الحقوق بالشكل المعروف حالياً، فيما توسع دستور عام 1953 توسعاً كبيراً في هذا المجال مع العلم أنه جاء على إثر الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد الشيشكلي، فاشتهر بتسميته دستورَ الشيشكلي.
إن ما يعيب الدساتير اختلالها في تنظيم موازين السلطات الثلاث، والتي يشكل توازُنها الدرع الأقوى لصيانة الحقوق والحريات العامة والخاصة للمواطنين إلى جانب التوسعة في مجالات السلطة الممنوحة للأجهزة التنفيذية في الدستور مع التضييق في مجال محاسبتها مما ينعكس سلباً على الحريات العامة للمواطنين، وهو ما ظهر بدايةً مع دستور 1973 المشهور بمادته الثامنة سيئة الذكر، إلا أن ما يجاريها سُوءاً تمثّل في المادة 91 منه الخاصة بمحاسبة رئيس الجمهورية حيث اقتصرت محاسبته في حالة الخيانة العظمى فقط، فيما درجت الدساتير السابقة (1950-1953) على محاسبة رئيس الدولة في حالتَيْ خرق الدستور والخيانة العظمى، كذلك نصّب دستور 1973 من رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى وأعطاه الحق في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية وهي حقوق مستجدة في هذا الدستور، ولم تكن ممنوحة لرئيس الدولة في الدساتير السابقة، مما مكّن السلطة التنفيذية من السلطةِ القضائيةِ المعتبرةِ حلقةَ التوازُن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والركيزة الأساسية لصيانة الحقوق والحريات العامة، وهو ما عبّر عنه فقهاء القانون العامّ بقولهم: “إنه لا حرية سياسية بدون مبدأ فصل السلطات”. تعتبر السلطة القضائية القناة التي يتفرع عنها العديد من الضمانات الخاصة بالحقوق والحريات العامة كسيادة القانون والرقابة القضائية والدستورية إضافة للرقابة الوقائية، ونتيجة للإخلال بها بموجب دستور 1973 شهدت الحريات العامة في سورية تراجُعاً كبيراً وأسهم في هذا التراجع تلاشي الضمانات السياسية، وأولها رقابة الرأي العامّ إضافةً لغياب الأحزاب السياسية والمعارضة البرلمانية مما جعل المواطن السوري مجرداً من الحقوق والحريات التي عايشها بموجب الدساتير السابقة (1920-1930-1950-1953). على الرغم من إلغاء قانون الطوارئ المعمول به منذ عام 1962.
وإقرار السلطة في دمشق لدستور جديد في العام 2012 إلا أن الحريات العامة لم تشهد تقدماً يذكر خلال العَشْرية الماضية، ذلك أن الدستور الجديد لم يتلافَ أيّاً من الانتهاكات الدستورية للضمانات الخاصة بهذا المجال إضافة لما كشفته الثورة السورية من حقيقة هذا النظام القائم على البِنْية الأمنية والقائمة بدورها على وحشية وإجرامٍ مُعفًى من المساءلة.
وعلى الرغم من إلغاء المادة الثامنة من دستور عام 1973 فقد حافظ دستور 2012 على ذات العيوب التي شابت الدستور السابق، لاسيما تغوُّل السلطة التنفيذية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، مما أفقد الأخيرة استقلالها وحياديتها وجعلها تحت رحمة السلطة التنفيذية، خاصة مع قانون المحكمة الدستورية الذي تم إصداره تبعاً، فقد أعطى القانون المذكور لرئيس الجمهورية سلطة تسمية أعضاء المحكمة الدستورية، وهو ما جاء بداية بدستور 1973 وتكرر بدستور 2012 ، فما يجمع الأنظمة الديكتاتورية بالأغلب هو جعلها القضاء الدستوري واجهة للحكام، وهنا لا بد من إيراد النماذج المتَّبعة لتعيين أعضاء المحكمة الدستورية، فمنها نموذج الأغلبية البرلمانية حيث تقوم الهيئة التشريعية بانتخاب أعضاء المحكمة، وهناك النموذج القضائي حيث تتوزع فيه سلطة تعيين المحكمة الدستورية بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية (بموجب دستورَيْ سورية لعام 1950 و 1953 توزَّعت السلطة بين البرلمان ورئيس الدولة) وثمة نموذج الأطراف المتعددة وتتشارك فيه بعض السلطات بالإضافة لمنظمات المجتمع المدني بهذا التعيين، والنموذج التنفيذي حيث تتفرد السلطة التنفيذية بهذا التعيين وهو أسوأ النماذج وقد أخذ به النظام السوري رغم العيوب الفاضحة فيه سواءً لناحية مخالفة القواعد القانونية القاضية بفصل السلطات وتدخُّل السلطة التنفيذية في تسمية القضاة وبذلك يُفقدها استقلالها وحياديتها ويسلبها نهايةً مراقبة دستوريّة القوانين لا سيما مع مَنْح رئيس السلطة التنفيذية صلاحيات تشريعية واسعة (حال الدولة السورية بعد عام 1973 المدارة بالقرارات والمراسيم والبلاغات أكثر من إدارتها بموجب القوانين والتشريعات) ، مع التنويه للعيوب الواقعية لهذا النموذج، إذ كيف يمكن تصوُّر قيام المحكمة بإلغاء مرسوم صادر عمن يملك صلاحية تعيينها، أما عن محاكمته فهو اختصاص أقرب للخيال في ظل آلية تشكيل المحكمة الدستورية وما تفرضه النصوص الدستورية من اشتراط موافقة ثلث أعضاء البرلمان على طلب الاتهام وتصويت ثلثَي الأعضاء على الطلب (المادة 117 دستور 2012) واشتراط موافقة كل أعضاء البرلمان -على الأقل- على طلب الاتهام وتصويت أغلبية ثلثَي الأعضاء (المادة 91 دستور 1973).
يتطلع السوريون اليوم إلى مستقبل يحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم بعد أن عايشها قسم منهم في دول اللجوء، وهو ما يمثل رافداً يجب استغلاله لاحقاً من خلال عملية تقنين هذه التجارب في الدستور المنشود والقوانين الناظمة للحقوق والحريات، مع العمل على إصلاح الخلل الذي اعترى الدساتير السابقة (1973-2012) لناحية توازُن السلطات الثلاث الحاكمة للدولة، ومنع تغوُّل السلطة التنفيذية على حساب غيرها أو تركيز أغلب السلطات في يديها. تخطو اللجنة الدستورية، كأحد إفرازات القرار الأممي ٢٢٥٤ ، بخطوات بطيئة، نرجو ألَّا تكون متعثرة، لإعداد وثيقة دستورية تجمع طرفَي الصراع السوري وترسم مع (سِلال) أخرى مجمَّدة صورة الحل السياسي في سورية، لذا نتمنى على ممثلينا في هذه اللجنة تضمينها للحقوق والحريات العامة بدايةً وفي مقدمة هذه الوثيقة، تماشياً مع رأي بعض فقهاء القانون الدستوري القائل: إن مقدمة الدستور تسمو على المواد الدستورية، أو من خلال التوافق على إعلان للحقوق والحريات العامة يُقره الدستور أو يتضمنه لاحقاً (وَفْق النموذج الفرنسي وما ذهب له المشرع الفرنسي غَداة الثورة الفرنسية)، مع ضرورة التركيز على فصل السلطات وتعزيز مبدأ المشروعية وسمو الدستور المنتجيْنِ لسيادة القانون، كما يجب العمل على إعادة بلورة الضمانات التشريعية من خلال حصرها بأيدي السلطة التشريعية (البرلمان) فقط وإبعادها عن صلاحيات السلطة التنفيذية، مع مراعاة أحكام المشروعية في عملية التشريع. أوجدت الطبيعة الحديثة للدولة وما تتمتع به من سيادة وهيمنة العديد من المجالات والتصرفات التي لا يحق للمواطنين مساءلتها عنها لذا يمكن القول: إن أخطر ما يواجه الحريات العامة هو ما تتعرض له من التضييق المستمر عليها من قِبل السلطة التنفيذية، خاصةً مع تنامي ظاهرة العولمة والسيادة الديمقراطية للدولة الليبرالية في شكلها المتوحش، والتي تحمل في ثناياها العديد من مظاهر المساس بالحقوق الإنسانية والحريات الأساسية للمواطن، ولا سبيل لمواجهتها إلا بالضمانات القانونية والسياسية المنوَّه عنها أعلاه، “فالإنسان بحقوقه وحرياته” كما يُقال.
الكاتب: عمار جلّو
المصدر: نداء بوست
(المقال يُعبّر عن رأي الكاتب ولا يُعبّر بالضرورة عن رأي أو موقف ممثلي هيئة التفاوض السورية في اللجنة الدستورية)