دستور 1964 المؤقت: «وثيقة توافق» قيادات البعث.. بلا استفتاء
«رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة، بناء على الأمر العسكري رقم 1 تاريخ 8/3/1963، وعلى المرسوم التشريعي رقم 10 تاريخ 23/3/1963، وعلى المرسوم التشريعي رقم 68 تاريخ 9/6/1963 وتعديلاته، وعلى قرار المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم /991/ تاريخ 25/4/1964 يرسم ما يلي: مادة 1- يعلن الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية المرفق بهذا المرسوم…»
من المرسوم 991 للعام 1964 المتضمن الدستور المؤقت
لا يمكن إنكار أن المحرك الأساسي للوحدة السورية المصرية في العام 1958 كان شعوراً شعبياً عارماً بأن الوحدة صارت قريبة المنال، وأنها حلم مجتمعي للخلاص من الاستعمار، وبناء الدولة القوية.
لكن الشعور القومي لوحده ما كان لينتج الوحدة لولا فشل السلطة الدستورية السورية في إيجاد نقطة ثقل تضمن مصالحها، وتُوازن بينها.
حاجة الطبقة السياسية السورية والعسكر إلى نقطة توازن أتاحت لجمال عبد الناصر أن يفاوض بأوراق قوية للوصول إلى وحدة اندماجية، وحل كل الحوامل السياسية والعسكرية السورية، ودمجها في منظومة رئاسية قوية.
كان وعد عبد الناصر للسوريين أكبر من مجرد تحقيق وحدة عربية من منطق إيديولوجي (وربما جيوستراتيجي في بناء فكي الكماشة حول إسرائيل).
وعده الأساسي كان تأسيس منطق دولة جديد، ومؤسسات مركزية قوية، واقتصاد وطني متين، وتجانس مجتمعي يستطيع حشد موارد الدولة، وتوزيعها بشكل عادل.
ما حصل عليه السوريون والسوريات كان خيبة أمل كبيرة: قبضة أمنية حديدية، وتفريق للحوامل السياسية من دون الحصول على أدوار حقيقية تستطيع اختراق مراكز القرار، وتفريق للقيادات العسكرية السورية، ودمجها تحت القيادات المصرية.
أحس الأعيان بالخطر المحدق عندما بدأت قرارات التأميم والإصلاح الزراعي (رغم أنها لم تطبق على نحو واسع في البدايات).
توحد السوريون على إرادة التخلص من مركزية دولة لا يملكون فيها حصة حقيقية من السلطة، وجاء الانفصال مصادفة نتيجة مطالبة العسكر بدور واضح في المنظومة العسكرية لدولة الوحدة.
لكن؛ سرعان ما ركبت الموجة كل القوى السياسية السورية، اليسارية منها واليمنية، البرجوازية منها والرأسمالية، المدينية منها والريفية. وما بدأ بوصفه محاولة لإصلاح خطأ عضوي في دولة الوحدة انتهى إلى انفصال لم يكن أحد مستعداً له في الإقليم الشمالي!
لم تكن العودة إلى دستور 1950 هي الحل الوحيد الطبيعي والمقترح بعد الانفصال. كان المشهد السياسي قد تغير، عالمياً وداخلياً. ورغم أن تجاوز أخطاء الوحدة كان عاملاً جامعاً بين مكونات الطبقة السياسية السورية، فإن الانفصال لم يكن خياراً شعبياً.
كان على النخب السياسية أن تقوم بتفاوضات عدة لاستعادة السلطة الدستورية التأسيسية وحواملها السياسية، بعد أن فرض عبد الناصر حل الأحزاب، وقيّد عمل الجمعيات والنقابات، وبدأ بتطبيق الإصلاح الزراعي، والتأميمات.
أولى تلك التفاوضات كان على مشروع العروبة بوصفه مشروعاً لهوية الدولة مستقبلاً، وهذا تم بته بتغيير اسم الدولة من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية إرضاءً للقوى السياسية التي قبلت بالانفصال لأن الوحدة جردتها من دورها السياسي، وليس رفضاً لمبدأ الوحدة. كانت هذه القوى تريد إعادة التفاوض مع مصر على شروط أفضل للعودة إلى دمج الدولتين.
في الواقع، لم يكن تغيير الاسم أكثر من محاولة لتسويف القضية من قبل أغلبية سياسية (وليست بالضرورة شعبية) كانت ترى في إعادة الوحدة مع عبد الناصر خطراً وجودياً على مصالحها.
انقسم الأعيان بين مؤيد للعودة إلى دستور 1950 والسلطة التأسيسية للبرلمان، وبين الذين اعتبروا أن الملعب السياسي صار خارج إرادتهم، وفضلوا الانزواء. العودة إلى دستور 1950 جاءت تنازلاً بين القوى السياسية، بعد أن فشلت في تصور مشروع سياسي جديد.
أوجدت صيغة توافقية بين ناظم القدسي من حزب الشعب (الجناح الذي قبل العودة إلى العمل السياسي، فيما فضّل جزء آخر من الحزب بقيادة رشدي كيخيا الانزواء) وبين العسكر الذين قادوا الانفصال بالتوافق مع خالد العظم، وكتلة اليساريين.
أجريت تعديلات طفيفة على دستور 1950 إرضاءً لبعض المطالب الجانبية، وللحيلولة دون العودة إلى تلك النسخة التي كانت على مقاس منظومة الأعيان البرجوازية من دون اعتبار للقوى المجتمعية الناشئة.
في المحصلة؛ لم تستطع القوى السياسية – الفاقدة للحوامل المجتمعية والسياسية – فرض هوية سياسية جديدة على البلاد، وبقبول مضمر من العسكر رجع السياسيون إلى واجهة المشهد بانقساماتهم التقليدية.
مرة أخرى فشلت المعادلة السياسية لنظام برلماني لا حوامل سياسية حقيقية له في فرض إرادة سياسية حقيقية، وتأسيس منطق دولة قوي، وتكررت المشكلة: دستور برلماني بسلطة دستورية تأسيسية نظرية لا تملك في الواقع القدرة على إدارة الأزمات العميقة التي كانت في انتظار الدولة السورية.
في العام 1962 كانت الحرب الباردة على أشدها. وكادت للحظات أن تتحول إلى حرب ساخنة مع قضية الصواريخ الكوبية، ومسألة توازن القوى بين الصواريخ المتوسطة المدى التي وضعها الأميركيون في تركيا مقابل الصواريخ الباليستية التي وضعها السوفييت في كوبا.
سحب الصواريخ الباليستية من كوبا جاء بعد تعهد ضمني من الأميركيين بسحب صواريخهم 500 كم جنوباً بعيداً عن الحدود السوفييتية إذا سحب الروس صواريخهم من كوبا.
فجأة صار موقع الجغرافيا السورية أكثر من موقع استراتيجي في معركة السيطرة الإيديولوجية على العالم بين الكتلة الغربية، والكتلة الشرقية.
ضمان بقاء الحيز الاستراتيجي السوري تحت السيطرة الروسية المباشرة صار ضرورة ملحة لا يمكن إرجاؤها إلى أن يستكمل الشيوعيون السوريون مشروعهم بالتحالف مع قوى وسطية.
لم تكن للشيوعيين حوامل كافية لملك زمام الأمور، فمالت الكفة في موسكو لصالح دعم وصول القوى السياسية القومية إلى سدة السلطة، رغم تصنيفها لدى السوفييت بأنها تمثل البرجوازية الصغيرة، ولا تمثل البروليتاريا. وإن لم يكن من دليل مباشر على دعم السوفييت للبعث في تسلم السلطة مباشرة، فإن انقلاب البعث في العراق في شباط، وتحالف البعثيين والناصريين السوريين لاستلام السلطة في آذار لم يكونا لينجحا لولا القبول الضمني السوفييتي بذلك.
حتى تلك اللحظة لم يكن عبد الناصر في نظر السوفييت سوى لاعب مارق لا يمكن ضمان عدم تحوله إلى المعسكر الأميركي (كان الأميركيون يفكرون بالطريقة ذاتها أيضاً).
وصول البعث إلى السلطة قد لا يكون مشروعاً سوفييتياً، لكنه فتح آفاقاً جديدة للسوفييت في المنطقة، بعيداً عن منظومتهم التقليدية المرتكزة على الأحزاب الشيوعية.
على أرض الواقع؛ لم يكن وصول البعث إلى السلطة في العام 1963 حصيلة ثورة لها حوامل مجتمعية وسياسية. البداية جاءت من خلال تحالف الضباط البعثيين والناصريين، مع عدد من الضباط المحايدين. تحريك القطع العسكرية للقيام بالانقلاب تطلب إدماج عناصر غير منظمة حزبياً من الجيش، ووضعها في المقدمة، ثم التخلص منها بلباقة بعد استلام السلطة، ليبدأ النزاع بين البعثيين والناصريين، وينتهي بانفراد البعثيين بالسلطة في أيلول من العام 1963.
لم تكن للبعث حوامل سياسية حقيقية، فأعضاؤه لم يتجاوزوا المئات، وحلفاؤهم في النقابات لم يملكوا إلا مفاتيح محدودة، بالتنافس مع عدد من الأحزاب القومية واليسارية الأخرى.
كان من الضروري تنسيب آلاف من الأنصار الجدد لبناء حوامل تستلم مفاصل السلطة. في الجيش كانت هناك ثغرة واضحة في رتب الضباط، إذ فُصل مئات الضباط أيام الوحدة (كان من بينهم حافظ الأسد)، ومن ثم بعد الانفصال، وأثناء انقلاب آذار 1963، وخلال تصفيات أيلول من العام ذاته.
في صفوف الدولة كانت بيروقراطية الدولة مفتقرة إلى الكوادر البشرية التي لم يتم ترميمها بالكامل بعد الاستقلال وخروج الكوادر اللبنانية التي اعتمدتها سلطات الانتداب لإدارة شؤون الدولة، أما الحكومات الهشة التي تداولت السلطة خلال عقدين من الزمن – بسبب غياب سلطة دستورية سياسية قوية – فلم تستطع كسب الثقة لبناء حكومة فاعلة.
نسب البعثيون آلاف الكوادر الحزبية، وأدخلوها في صفوف الجيش، والبيروقراطية على عجالة. جاء التنسيب مبنياً على المعارف الشخصية، والمحسوبيات القبلية، والطائفية لقيادات الانقلاب، ما خلق حالة من الشللية في محيط الكتلة الصلبة التي قادت الانقلاب.
أعطى البعثيون أنفسهم مشروعية الحكم بموجب ما جرى تفنيده لاحقاً على أنه شرعية ثورية (على غرار الثورة الفرنسية)، ورفضوا بدايةً المؤسسات السياسية التقليدية، فأسسوا مجلساً رئاسياً يسانده مجلس وطني. لكن تلك المؤسسات كانت فعلياً خالية من المضمون، لأن الفعل السياسي كان يتحرك بالتفاوض الضمني بين مجموعات من القيادات المختلفة، فمن جهة لم يكن البعث إيديولوجياً قد استقر بعد بوصفه فكراً منتظماً (لم يتم تعريف دوغما موحدة للحزب إلا بعد التخلص من تياري أكرم الحوراني، وجلال السيد في صيغة ما عرف بالمنطلقات النظرية، ومن ثم حمي التنافس بين تياري الأرسوزي، وعفلق)، ومن جهة أخرى لم يكن البعث قد حدد أولويات مشروعه السياسي (القومي مقابل القطري)، ومن جهة ثالثة لم تكن التوازنات قد استقرت بين العسكر والمدنيين.
كان من المفترض أن يكون المجلس الوطني هو المكان الذي تبت في تلك الثنائيات، لكنه انتهى فعلاً انعكاساً للصراعات الداخلية بين تيارات حزب لم تتبلور أفكاره، ولا منظومته الإدارية، أو القوى الافتراضية لكتله.
بدأت على التتابع عمليات التصفية على المحاور الثلاث: النزاع بين العسكر والمدنيين، والنزاع بين القيادة القطرية والقيادة القومية، والنزاع بين أتباع الشلل الشخصية للقيادات المحورية.
صدر أول دستور مؤقت في العام 1964، في محاولة أولى لتنظيم هذا الخليط العجيب من القوى السياسية والعسكرية المتنافسة، وضمن مساع لتأطير مؤسساتي للفوضى الإدارية التي خلقها تنوع مراكز صنع القرار بين النخب الجديدة.
افترض ذلك الدستور أدواراً مؤسساتية محددة للمجلس الرئاسي، والمجلس الوطني. لكن تلك المعادلة تجاهلت الثنائية الأخرى التي نظمت عمل تلك النخب بين القيادة القطرية، والقيادة القومية. انتهى المطاف بشكل غير معلن إلى اصطفاف مجلس الرئاسة بأغلب أعضائه مع القيادة القومية وقيادات الحزب الإيديولوجية (عفلق والبيطار)، واصطفاف الباقين وخاصة العسكر (المنتمين بأغلبهم إلى فكر الأرسوزي) مع القيادة القطرية.
لم يناقَش الدستور المؤقت شعبياً، ولم يعرض لاستفتاء (جميع دساتير العسكر جاءت على صيغة قرارات إدارية)، فهو في الأساس وثيقة توافق بين النخب القيادية في البعث، وليس عقداً اجتماعياً جديداً للبلاد.
لم يستطع دستور مبني على «صورة مثالية» للثورة إدارة تناقضات مفاتيح السلطة الفعلية، فانفجر الوضع مجدداً في شباط 1966 بتخلص القيادة القطرية من القيادة القومية، وتفردها بالسلطة، وتقدم الشخصيتين الأساسيتين من اللجنة العسكرية (صلاح جديد وحافظ الأسد) إلى قلب صناعة القرار، مع ترك شخصية نور الأتاسي الصورية في الواجهة.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري