دستورا 1969 و1971 المؤقتان: نحو مَركزة تدريجية للسلطة الدستورية التأسيسية
«القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي، بعد اطلاعها على قرار القيادة القطرية المؤقتة رقم /1/ تاريخ 23/2/1966، قررت إعلان الدستور المرفق. دمشق في 1/5/1969»
«إن الهدف الأساسي من وضع دستور لأية دولة، وفي مرحلة معينة من الزمن هو إيجاد دليل واضح ينظم مسيرة الشعب نحو المستقبل ويكون الضابط لحركة الدولة…»
من مقدمة الدستور السوري المؤقت الثالث الصادر في العام 1971
كان من المفترض لانقلاب شباط 1966 الذي قامت به عناصر البعث الموالية للقيادة القطرية، ضد القيادة القومية، أن ينتج منظومة
حكم أكثر استقراراً، وأن يتبعه إنتاج دستور جديد أكثر وضوحاً حول من يملك السلطة الدستورية في البلاد، وما هي حوامله السياسية الأساسية، لكن الظروف الداخلية والخارجية لم تكن لتسمح بالتفرغ لمشروع كهذا. فمن جهة أفرغت الانقلابات المتتالية صفوف العسكر من الضباط بعد فصل المئات منهم إثر كل انقلاب، ومن جهة أخرى كان على البعث أن يبني كادره لإدارة الحكومة وفق إيديولوجيته غير الواضحة المعالم حتى تلك اللحظة.
لم تكن سوريا مستعدة لحرب 1967، وليست هذه السلسلة مساحة للدخول في حيثياتها، لكن خسارة الحرب أوضحت بما لا مجال للشك فيه حجم الفجوة العسكرية والإدارية التي خلفها غياب سلطة دستورية تأسيسية حقيقية قادرة على تجميع الحوامل المجتمعية، والحكومية، والإدارية في مصفوفة واحدة ذات كتلة وازنة قادرة على ضمان الاستقرار، فمنذ الاستقلال كانت الجهود موجهة لتولي السلطة، لا لبناء منطق دولة قوي.
تقاسم حافظ الأسد وصلاح جديد الحيزين العسكري والسياسي. فضّل الأسد أن يبني حامله الأساسي داخل الجيش (على ضعفه بعد خسارة حرب حزيران 1967)، مع قناعته الراسخة بألا استقرار لسلطة ولا لدولة خارج إطار الجيش الرسمي. بينما ترك صلاح جديد الجيش لأتباعه، وتحول إلى إدارة الجانب المدني من الحكم بتوجه يساري جليّ.
لم تكن الغلبة واضحة لأي منهما في البداية، فلكل منهما رجاله في الجيش، وفي الكوادر الحزبية، وفي التنظيمات النقابية التي بدأ البعث يتغلغل فيها تدريجياً منذ استلامه السلطة. لكن خطأ صلاح جديد القاتل كان مثاليته الإيديولوجية، بينما استطاع الأسد ببراغماتية عالية إعادة احتواء كل الكوادر، وأغلب العناصر التي طردها جديد من الحزب.
شيئاً فشيئاً راحت تتضح سيطرة الأسد على الجيش بشكل شبه مطلق، وتغلغله التدريجي في الكوادر المدينية، بينما حاول جديد تعويض الحوامل التي فقدها من الجيش ببناء منظومة غير رسمية مستوحاة من حرب العصابات التي كانت تشن في فيتنام.
سعى جديد بعيداً عن السلطة المباشرة للأسد إلى تأسيس منظومة فدائية شبه عسكرية، ولكن الزمن أثبت أن رهانه الإيديولوجي على مفهوم الثورة كان خاطئاً، وأن السياسة لا تدار إلا بحوامل مؤسساتية، وسلطوية حقيقية.
كانت للأسد نظرة دقيقة في تعزيز حوامل السياسة بحوامل مجتمعية، ففتح القنوات مع برجوازية دمشق التي كانت قد ملت من التوجه اليساري الواضح لصلاح جديد، وبدأت خطوط المعركة تتوضح في نزاع شبه مفتوح.
دستور البلاد المؤقت الثاني جاء في تلك الفترة. حاولت القيادات الوسطى للحزب التوسط بين الأسد وجديد في العام 1969 لتجنب الصدام المباشر.
كُتب الدستور في محاولة جديدة لوضع معيار للسلطة الدستورية التأسيسية يضمن عدم طغيان أحد جناحي البعث على الآخر.
تم توسيع مفهوم المجلس الوطني ليلعب وظيفة برلمان، ويكون الفيصل بين الكتلتين. ولكن بدلاً عن كون البرلمان سلطة مستقلة تنتجها إرادة الناخبين وفق حوامل سياسية مستقلة كُرس البرلمان الجديد مناصفة بين الموالين لكل من الأسد وجديد، فهو برلمان بلا سلطة تأسيسية دستورية حقيقية.
لم يكن برلمان نواب يملكون سلطة تمثيل فعلية، وإنما برلماناً معيناً بالمناصفة.
سمي ذلك التشكيل اعتباطياً «مجلس الشعب» للمرة الأولى في وقت سُحبت فيه من الشعب القدرة على تمثيل نفسه، وتنظيم حوامله السياسية والمجتمعيةّ!
برلمانا البعث الأول، فالثاني (المجلس الوطني، ومن ثم مجلس الشعب) ألغي منهما تمثيل الشعب في كياناته المجتمعية، وجاء التمثيل رمزياً للقطاعات (الإنتاجية والخدمية) بدلاً من التمثيل الجغرافي للمدن والبلدات والمحافظات.
لم تكن تلك القطاعات الإنتاجية قد أفرزت حوامل سياسية حقيقية تدافع عنها، وبالتالي بقيت برلمانات البعث الأولى تعكس الصراع الداخلي بين أقطاب السلطة، بدلاً من التفاعل المجتمعي الحقيقي للشعب السوري.
دخلت المرأة البرلمان للمرة الأولى في مجلس الشعب المعين العام 1969، كما حصلت على حق التصويت تحت غطاء العسكر في العام 1949، ومن ثم حق التمثيل السياسي العام في دستور 1953 في ظل حكومة رئاسية يقودها العسكر.
كان العسكر بحاجة تحالفات مجتمعية جديدة تكسر الحوامل التقليدية للأعيان، لكن التحول نحو مجتمع من صغار البرجوازيات الناشئة مبني على البيروقراطية الحديثة للدولة لم يكن قد تبلور، ولم يستطع البعث حرق المراحل كما كان يحلم منظروه الأوائل.
أدرك الأسد تلك المعادلة باكراً، وكان العنصر الحاسم في معادلة تقاسم السلطة هو تطلع الكثير من القوى المحافظة (داخل الدولة وفي جوارها المباشر) إلى دور أقل حدة لمركز الثقل في دمشق.
لم يغرق الأسد في معركة أيلول الأسود بين الفلسطينيين والملك حسين، ولم يبدد جهوده في منازعة القيادات المجتمعية المحلية على سلطتها. ولم يسع في البدء إلى سيطرة المنظومة الحكومية على المنظومة النقابية، بل سعى إلى المصالحة معها، واحتوائها، فبنى تحالفاً واسع الطيف مكنه في نهاية المطاف من الإطاحة بصلاح جديد ومن تبقى من حلفائه في القيادة القطرية، ليمسك زمام الأمور في تشرين الثاني من العام 1970.
لم يستطع برلمان معين لا حوامل سياسية له أن يلعب دور صمام الأمان بين الأسد وجديد، ليبرهن مرة أخرى أن الفصل النظري بين الوظيفة التشريعية، والوظيفة التنفيذية لا معنى له من دون فصل الحوامل السياسية لكل منهما، ومن دون ترسيخ لدور القوى المجتمعية الممثلة في تلك المؤسسات السياسية.
لم يستلم حافظ الأسد السلطة مباشرة، ووضع في الواجهة رئيساً صورياً هو أحمد حسن الخطيب لمدة أربعة أشهر كانت كافية ليُنجز الأسد جميع الترتيبات اللازمة لاستلام السلطة مباشرة، بما في ذلك ترتيب قيادة قطرية جديدة ضمت عدداً من المدنيين القلائل في صفوف البعث الذين وقفوا بإخلاص معه. كذلك؛ أنجز دستوراً مؤقتاً ثالثاً للبلاد، وصدر في اليوم ذاته مع تشكيلة معينة جديدة لمجلس الشعب.
استلم حافظ الأسد سدة الرئاسة السورية في شباط 1971 بعد أن أتم كل الإجراءات الشكلية اللازمة للتأسيس لمنظومة سياسية جديدة يكون موقع الرئيس فيها هو موقع السلطة التأسيسية.
لحقت الدساتير المؤقتة الثلاثة مسار تمركز السلطة من زمرة قيادية واسعة نسبياً، إلى مجموعة صغيرة من القيادات، وصولاً إلى تسليم السلطة إلى شخص واحد كان قد أكمل التحكم بالحوامل السياسية الأساسية للمرة الأولى في تاريخ الدولة السورية الحديث.
بالطبع لم يمتلك الرئيس الجديد كل مفاتيح السلطة فوراً، ولزمته لاستكمال ذلك تحركات أخرى كان أبرزها تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، ليضمن ولاء الكتلة الكبرى من الأحزاب القومية، واليسارية، وإدخال كوادر جديدة في صفوف البعث لاستلام المفاصل التي خلفها إبعاد الموالين لصلاح جديد، وزج البعث في المفاصل الأساسية لقيادة النقابات العمالية، ومركزة القيادات البعثية الموالية له في مفاصل الحكومة والجيش: منظومة من النخب السياسية التي فاق عدد أفرادها الأساسيين ألفين وخمسمئة شخص تعتبر واحدة من أوسع «النخب الحاكمة» في الوطن العربي من ناحية الانتشار الأفقي.
كانت تشكيلة مجلس الشعب في دورة التعيين خليطاً من القيادات المجتمعية المحلية، والقيادات الإدارية القطاعية.
أعاد الأسد الاعتبار للبعد المكاني في إدارة الولاءات المحلية بدلاً من تقويضها، وأراد للمجلس المعيّن أن يملك صفة تمثيلية ما، لكنه لم يكن مستعداً للمغامرة السياسية بانتخابات مفتوحة مع علمه أن بقايا الموالين لجديد ما زالوا في كل مكان، وكان المطلوب استمالتهم تدريجياً، او تحييدهم.
قرر الأسد أن يضم إلى برلمانه القيادات النقابية المنتخبة في كل محافظة، وهو بذلك استقدم أشخاصاً يملكون نوعاً من التمثيل السياسي بالحد الأدنى، ويغطون معيار التمثيل المكاني، والتمثيل القطاعي في آن واحد.
كان من الضروري أن يترك الأسد مساحة صغيرة للأحزاب اليسارية، والقومية التي حاول استمالتها في معادلة سياسية أثبتت نجاعتها في تفريغ تلك الحوامل من قدرتها الفاعلة.
هكذا تكرست السلطة الدستورية التأسيسية بيد الرئيس، برغم تكرار الدستور المؤقت أسطوانة الفصل الشكلي بين السلطات، التي درجت التقاليد الدستورية عليها.
بعد قرابة 45 سنة من الاستقلال وصلت السلطة الدستورية التأسيسية إلى حالة تواكب توزع السلطة الحقيقي في البلاد، وصار من الممكن بناء منطق فعلي للدولة يستطيع الموازنة بين توحيد الهوية السياسية من جهة، وتطويع النخب المجتمعية من جهة أخرى (بمزيج من الترغيب والترهيب)، وأثبتت تلك السلطة التأسيسية صمودها أمام الأزمات العديدة التي واجهتها منظومة الحكم في سوريا عبر العقود اللاحقة.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري