دستور 1973: السلطة التأسيسية بين الرئيس والدولة العميقة
استحوذ الرئيس حافظ الأسد على السلطة الدستورية التأسيسية في الدولة بموجب الدستور المؤقت للعام 1971، واستقرت للمرة الأولى في التاريخ السوري الحديث العلاقة بين النص الدستوري وبين حوامل السلطة الحقيقية. لكن ذلك الدستور – باستثناء كونه إعلاناً لمعادلة السلطة الجديدة – لم يتضمن العديد من التفاصيل الأساسية التي يتطلبها دستور ناظم لجميع جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية للبلاد.
كان على رأس المهام الرسمية لمجلس الشعب في دورة التعيين إنجاز دستور دائم للبلاد، وهو من حيث التسمية إقرار بالواقع السياسي وإعطاؤه صفة الديمومة، لكنه لم يكن دستوراً جديداً من ناحية الوضع التأسيسي للسلطة، لذا لم يكن أحد على عجالة لإنجازه.
طُلب من البرلمان المعين أن يسمي لجنة لصياغة الدستور في ربيع العام 1972، أي بعد أكثر من عام على تشكيل المجلس. تلك اللجنة لم تجتمع فعلاً لصياغة الدستور إلا بعد مرور أكثر من ستة أشهر على تكليفها.
في كانون الأول من العام 1972 طُلبت اللجنة إلى اجتماع وعرض عليها نص أنجزته لجنة أخرى بتكليف من القصر برئاسة الخبير القانوني مظهر العنبري.
ناقشت اللجنة البرلمانية مسودة النص المعروض عليها في مدة زمنية لم تتجاوز ثلاثة أسابيع، ثم عرض المشروع على مجلس الشعب في أول اجتماع له بعد بداية العام، وناقشه في اجتماعين سريعين خلال 18 عشر يوماً، لتُقر المسودة وترسل إلى الاستفتاء وتُعتمد خلال شهر بعد ذلك. عندما تكون السلطة التأسيسية واضحة تصبح عملية إنتاج الدستور موضوع تفاصيل.
في نهاية العام 1972 كان الرئيسان السوري والمصري قد حددا موعداً أولياً لإطلاق الحرب على إسرائيل في ربيع العام 1973 نهاية نيسان، أو أول أيار. (عُدل الموعد لاحقاً وأُجلت الحرب إلى بداية تشرين الأول).
كان الجيشان السوري والمصري يناوشان في حرب باردة على الحدود مع القوات الإسرائيلية بوتيرة شبه مستمرة منذ خسارتهما في حزيران 1967. ولكن خلف الواجهة المملة لحرب الاستنزاف كانت الإعدادات جارية على قدم وساق للمعركة القادمة.
كانت تلك المعركة تحتاج كل الموارد اللازمة وتحتاج تجميعاً واضحاً للصلاحيات الإدارية والسياسية والاقتصادية لضمان تكافؤ الفرص في المواجهة القادمة.
قيل كلام كثير عن الأهداف المعلنة، والأهداف الحقيقية للمعركة، وعن رغبة كل من الأسد والسادات في استكمالها حتى النهاية، أو استعمالها ورقة ضغط في مفاوضات قادمة.
في الحقيقة أغلب ما قيل لا يستند إلى مرجعيات ووثائق دقيقة، ما كان واضحاً أن الإعداد للمعركة كان جاداً في نهايات 1972. ازدادت شحنات السلاح السوفيتي كماً ونوعاً، وخسائر الجيشين كانت قد رممت إلى حد كبير.
على الجبهة السورية كان الجيش السوري قد استكمل ترميم كوادره القيادية بعد عقد من التصفيات السياسية التي طاولت ضباطه بعد كل عملية انقلاب. أتقن حافظ الأسد لعبة الإمساك بمفاصل الجيش، ولكنه ضمن أيضاً انصياع الضباط غير البعثيين، وانضمامهم إلى الإعداد للمعركة. وكان الأسد قد ضمن التزام الأحزاب السياسية اليسارية والتقدمية بـ«رص الصفوف لحشد كل الطاقات المجتمعية للمعركة القادمة». الجميع كان مستعداً لطمر الخلافات والشكوك عندما كان الأمر يتعلق بالحرب مع العدو.
دستور العام 1973 (الدائم) جاء في سياق تلك اللحظة التاريخية. كل الاعتراضات التي أثيرت حواله أثناء مداولات مجلس الشعب من قبل الأحزاب المنضوية تحت جناح الجبهة الوطنية التقدمية المشاركة في مجلس الشعب المعين وُضعت على الرف. صوت المعركة كان أعلى من أي صوت أخر.
في نقاشات مجلس الشعب بعموم أعضائه بدت واضحة غلبة الأكثرية البعثية التي لم تقبل أي تعديل جوهري على النص المقترح. حاول بعض الأعضاء في البداية فتح النقاشات واحداً تلو الآخر حول ضرورة عدم إغلاق الحيز السياسي، ومنع احتكاره من قبل حزب البعث عبر المادة الثامنة من الدستور التي نصت على أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع». لكن النقاش حول مواد الدستور أثبت أن الأكثرية كانت مصرة على مواقفها، ولم تقبل سوى بتعديلات شكلية، أو لغوية على النص.
مادة بعد مادة فقد المعارضون لنص المشروع طاقتهم ورغبتهم على النقاش. تركيبة المجلس كانت حصيلة فعلية للعقد الاجتماعي الجديد الذي أوجده دستور 1971، ولم يكن أحد من المستفيدين منه يرغب في التنازل عن مكاسبه عند صياغة الدستور الجديد الدائم.
المعادلة السياسية المركزية هي حوامل سياسية تملك زمام الدولة والمجتمع (بالترهيب أو الترغيب)، تضمن مركزية السلطة بيد الرئيس الذي يضمن بدوره مصالحها بوصفها طبقة سياسية جديدة.
شكل برلمان 1971 المعين نواة البيروقراطية السياسية والإدارية السورية لعقود. أغلب أعضائه عند كتابة الدستور الدائم كانوا في الثلاثينيات من عمرهم، والقلة القليلة كانت في الأربعينيات.
طبقة جديدة بإيديولوجية جديدة ستشكل الدولة العميقة ببعدها البيروقراطي، وليس فقط الأمني. أتقن الأسد الأب لعبة تدوير عناصر تلك الطبقة في المناصب العامة، ليؤجل مسارهم الطبيعي، أو طموحاتهم الشخصية نحو القمة.
وككل الأنظمة الشمولية يكتسب المركز قوته من بناء مسار حلزوني صاعد للنخب نحو قمة الهرم، بدلاً من التركيز على قطاعات ثابتة لتنظيم المجتمع وفق الرؤية الساذجة للبعث في بداية قبضه على السلطة قبل عقد من الزمن.
إلغاء الحوامل السياسية يعني فقدان النظام السياسي لقواعده وقدرته على الولوج إلى المجتمع، لكن في المقابل تكريس حوامل سياسية قوية ضمن إطار قطاعي أو جغرافي ثابت سيجعل من تلك الحوامل منافساً على السلطة.
كان الحل البديل أن تلعب المؤسسات دول الحوامل السياسية، وألا يسمح للأفراد باحتكار التمثيل في تلك المؤسسات من خلال تدويرهم بشكل دوري من مؤسسة إلى أخرى. لذا كان من الطبيعي تحريك الأشخاص أفقياً أو قطرياً، من قيادات البعث، إلى السلطة التنفيذية، إلى السلطة التشريعية، إلى السلطة القضائية، كذلك الأمر في الأمن والجيش.
تبدأ الرحلة من القواعد البيروقراطية التي ضمت أكثر من ربع القوة العاملة، للوصول إلى طبقة الإدارة الوسطى التي ضمت في صفوفها ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألف شخص، وصولاً إلى السقف الزجاجي الذي يضم قرابة ألفين وخمسمئة من القيادات الحزبية والحكومية والأمنية والعسكرية.
منظومة كاملة من الولاءات التي قد تهدد أكثر الأنظمة استقراراً في حال سُمح للقيادات ببناء شبكات المحسوبية السياسية الخاصة بهم. الحل البديل كان تدوير النخب بشكل دوري بين المراكز، من دون أن يُسمح لأي منها بإرساء جذور دائمة.
الفصل بين السلطات لم يكن مقتصراً على نص الدستور، وإنما فعلاً من خلال تحرك الأشخاص بين المؤسسات، وخضوع المؤسسات إلى منظومة إدارة خارجة عن إرادتها تحرك قياداتها وفق التوازنات المركزية، لا وفق مسؤوليات المؤسسات وصلاحياتها.
لم يُفصل أي من هذه الأمور في دستور 1971 المؤقت، ولا في دستور 1973 الدائم.
يضيع الباحثون في الجانب الشكلي للدستور، في تفاصيل الدستور المعيارية، متناسين أو غافلين عن الأثر العملي للسلطة الدستورية التأسيسية في تركيب الحوامل السياسية الفعلية.
لم يُفصل دستور 1973 على مقاس الأسد الأب كما يتناقل البعض، وإنما فُصل على مقاس منظومة كاملة يشد بعضها أزر بعض من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة. منظومة تطوي وتختزل كل التناقضات المجتمعية بين الهويات المتضاربة، والطبقات المختلفة، والمصالح المتعارضة، من خلال ربطها بآلية توزيع موارد الدولة عن طريق المؤسسات (بشكل رسمي) وشبكات الولاء الشخصية (بشكل غير رسمي).
المركزية في السلطة والإدارة لا تعني إلغاء الفرعي والمحلي، ولا تعني إلغاء الحوامل المحلية، لكنها تعني القدرة على تحوير الطاقات المتجددة في الحوامل المحلية لمصلحة المركز. هذه هي السلطة التأسيسية الفعلية للحياة الدستورية طوال أربع عقود، من بداية سبعينيات القرن الماضي، إلى بداية الحراك المجتمعي في العام 2011.
في ربيع 1973 لم يكن كل ذلك ظاهراً للعيان. تلقف الشارع المحافظ محاولة تغيير معادلة الهوية في الدستور بطريقة حادة، وخرجت مظاهرات في عدد من المدن والأحياء، تحركها تطلعات بعض رجال الدين إلى الحصول على تنازلات أساسية من حاكم دمشق الجديد، مقابل التخلي له عن السلطة.
لم يحضر الشيخ أحمد كفتارو (مفتي الجمهورية منذ العام 1964 وحتى وفاته العام 2004) جلسات البرلمان الخاصة بمداولات الدستور – رغم كونه رجل الدين الأعلى مرتبة، وشبه الوحيد في تركيبة البرلمان المُعين – ربما ليتجنب أن ينخرط في المواجهة، وترك الموضوع للحراك في الشارع، وهي معادلة أدركها رجال الدين على مدى حكم البعث: ترك الأمور تتأزم، ثم التقدم بحلول تعيد إلى المؤسسة الدينية مكانتها.
تراجع حافظ الأسد عن محاولة تمييع معادلة هوية الدولة في المادة الثالثة من الدستور، من خلال سحب مادة دين الرئيس، وتعديل في صيغة مصادر التشريع. ربما جاء التراجع وقتها بسبب تدخل غير مباشر من أنور السادات الذي لم يشجع الخوض في نزاعات مجتمعية جانبية قبيل الإعداد للمعركة المزمع إطلاقها بعد أشهر (لم يكن موعد المعركة قد أُجل بعد إلى تشرين الأول). لكن تراجع الأسد جاء مطابقاً لتوليفة دستور 1950، وليس أبعد كما كان الشارع المحافظ يطالب بجعل دين الدولة الإسلام.
الأهم في التراجع عن قضية هوية الدولة وقتها لم تكن صيغة التوليفة، بل انشغال الشارع بها بدلاً عن المادة الثامنة التي جعلت حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، ونقلت الصلاحيات الأساسية في الدولة إلى مؤسسة الرئاسة.
هكذا تكرس ضمناً عقد اجتماعي أساسي ثانٍ بين السلطة والمؤسسة الدينية. أُطلقت يد رجال الدين على الحيز الاجتماعي، مقابل ترك الحيز السياسي لمنظومة البعث. هذه المعادلة استمرت بضع سنوات، وكانت محاولة التلاعب بها مدعاة للدخول في نزاعات مستمرة بين السلطة والقيادات الدينية، بحيث تستخدم المؤسسة الدينية الشارع لتحريك مطالبها، ثم تتدخل هي بشكل لاحق لحل الأزمة، وإعادة «العقد الاجتماعي» إلى صيغته الأساسية. هذه المعادلة كانت كافية لإسكات العديد من الأصوات المجتمعية، ولكن من الطرف المقابل كانت هناك قوى مجتمعية ناشئة تطالب بتحرير المجتمع من قبضة المؤسسة الدينية، ورجال الدين.
كانت هناك قوى أخرى تطالب بالتغيير: الكثير من النساء يطالبن بالمساواة الكاملة، والأقليات لم ترق لها العودة إلى الوراء في موضوع المواطنة المتساوية، والأحزاب اليسارية التي لم تقبل بإعادة دور الدين إلى الحيز العام معتبرة المؤسسة الدينية ممثلاً لليمين الاقتصادي وليس فقط لليمين الثقافي.
دستور 1973 أعاد توليفة هوية الدولة الرسمية كما أرادها رجال الدين، ولكنه أدخل توليفات أخرى، ظلّ جميعها بلا معنى سياسي مباشر، لكنها استُخدمت للميل حيناً باتجاه اليمين، وحيناً باتجاه اليسار، كيلا تتبلور مواقف سياسية تبني حوامل قوية لها في مواجهة سلطة البعث.
التوليفات الهوياتية – وإن اتخذت شكل نص قانوني – تبقى بدون معنى حقيقي إذا لم تترجم إلى قوانين، وترجمة الدستور إلى قوانين بقيت بيد السلطة الدستورية التأسيسية الحقيقية، وبقي بذلك الدستور نصاً معيارياً حينما غابت الحوامل السياسية القادرة على فرض ترجمة محددة للنص في صياغة وتطبيق القوانين. نقل مركز ثقل الجسم السياسي للدولة من اليسار إلى اليمين، وبالعكس، سمح للنظام السياسي بامتلاك مرونة عالية من خلال ضرب القوى المجتمعية بعضها ببعض، على مستوى الدولة كاملة، وعلى مستوى المدينة والحي.
هذا هو إرث دستور 1973 الأساسي الأعمق: إدارة تناقضات المجتمع، وتثبيت مركزية السلطة التأسيسية من خلال لعب دور الوسيط والموازنة بين المصالح والهويات المختلفة.
أصدر حافظ الأسد الدستور بعد أن أقره مجلس الشعب المُعين وعرضه للاستفتاء على عجالة.
ذُكر في مرسوم إصدار الدستور دور مجلس الشعب (رغم كونه مجلساً معيناً) في إقرار نص المشروع قبل عرضه على الاستفتاء لكسب السلطة الدستورية التأسيسية من الشعب مباشرة، وهي حركة رمزية بقيت تعترف للبرلمان بدور حتى وإن كان هذا الدور رمزياً. كان النظام السياسي بحاجة لرمزية تمثيل الشعب في البرلمان، حتى وإن كانت شكلية.
بعد إصدار الدستور حُل المجلس المُعين، وأجريت انتخابات تشريعية. أُخذت احتياطات شديدة لضمان عدم مشاركة أي من القوى المعارضة لسلطة الأسد، وخاصة منها العناصر البعثية التي بقيت موالية للقيادة القطرية الأخيرة بقيادة صلاح جديد (رغم أن قياداتها صارت في السجون، أو قبلت التقاعد، أو الانضمام إلى رؤية الأسد لدور البعث في المنظومة السياسية الجديدة).
بقي هاجس الانتخابات الأساسي لأعوام لاحقة ليس نتيجة الانتخابات، وإنما سلاسة إجرائها، وعدم ظهور أي تعبير عام يعارض مشروعية الانتخاب بالهتاف (وليس بالأصوات)، وهو إطار جديد للمشروعية السياسية: امتلاك السلطة يخلق مشروعيتها.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري