دستور 2012: الرئاسة تناور للانفراد بالسلطة الدستورية
واجه العقد الاجتماعي الذي سنّه دستور 1973 (وإن لم ينص عليه صراحة) تحديات عديدة عبر السنوات الأربعين التي بقي فيها النص القانوني الأعلى للبلاد. أغلب هذه التحديات جاء مركباً من عوامل خارجية، وأخرى داخلية متداخلة.
كان من الصعب على المنظومة السياسية أن تفصل بين التحديات الداخلية، والتحديات الخارجية فألبست الأولى لبوس الثانية.
أُجّل التعامل مع العوامل الداخلية إلى حين تبدد التحديات الخارجية، ثم لجأت المنظومة إلى استخدام العنف المفرط في قمع التحديات الداخلية تحت وازع «الخطر الوجودي» على الدولة السورية.
تشكل سوريا عقدةً لخطوط مصالح وسياسات دولية وإقليمية، متعددة ومتضاربة. وهي وإن كانت ذات موقع حيوي عند تقاطع الجيوستراتيجيا مع الإيديولوجيا للاعبين الدوليين الكبار، لكنها ليست بذات أهمية في حد ذاتها، فهي لا تملك الكثير من الموارد. ويكفي أيّاً من اللاعبين أن يحرم منافسه الانتفاع بموقعها المتميز، بدلاً من الاستثمار في السيطرة عليها. وغالباً ما كان اللعب على العوامل الداخلية أداة للاعبين الخارجيين لزيادة الضغط، وكسب الأوراق في معادلة جيوستراتيجية تباع فيها الأوراق وتشترى بحسب الحاجة ومقدارها.
وعى الأسد الأب تلك المعادلة منذ البدء. وكان مع كل أزمة خارجية بلبوس داخلي (أو العكس) يلجأ إلى الانكماش وتأزيم الموقف، مدركاً أن لا أحد يملك مصلحة التدخل المباشر على الأرض السورية، ثم يلعب عنصر الوقت لصالح حلٍّ ما يضمن تراجع اللاعبين الخارجيين عن ضغوطاتهم مقابل تنازلات في إطار أداء الحكومة السورية في مجال السياسة الخارجية.
وعادة ما كانت تأتي بعد ذلك فترة انقباض، إلى أن تتوازن الأمور في المشهد الداخلي قبل أن تبدأ المنظومة بالانفتاح التدريجي، ولكن بعد أن تكون معادلة العقد الاجتماعي الأساسية قد عادت إلى الاستقرار.
تمثل فترات الأزمات مراحل حرجة لأي منظومة سياسية في حال وجود حوامل اجتماعية أو سياسية بديلة، أو منافسة. أما في غياب تلك الحوامل البديلة فالدور الحرج الذي تلعبه السلطة الدستورية التأسيسية (بغض النظر عن شرعية أو مشروعية وجودها السياسي) يبقى أقوى من التحديات، وتعجز بذلك تلك الأزمات عن فرض أي تغيير عميق في آليات ممارسة السلطة والتفاوض على عقد اجتماعي جديد.
كما رأينا في المحطة السابقة فقد نجح دستور 1973 (لا من خلال نصه القانوني بل من خلال إحكام القبضة على السلطة الحقيقية) في إيجاد منطق للدولة قائم على توازن دقيق بين القوى المجتمعية، وتعزيز دور المركز بلعب دور الموازن بين تناقضات المجتمع. وعالج الأزمات واحدة تلو الأخرى بتبديل الارتكاس من حوامل مجتمعية، إلى أخرى، من دون أن يضطر إلى التفاوض الجاد مع أي منها، لكون الارتكاس مؤقتاً.
لم تكن الأزمة الوطنية التي انفجرت في العام 2011 أزمة طبيعية أو تقليدية. ولكن المنظومة السياسية فتحت دفاترها القديمة، وبدأت بتطبيق الدروس والعبر من الأزمات السابقة.
كانت اعتبارات جديدة وكثيرة قد تطورت في السنوات العشر السابقة، وجعلت الدروس القديمة أقل نجاعة: التركيبة الديمغرافية للسكان – تغيير طبيعة البنى الاقتصادية وتركيبة الاقتصاد السياسي – تحول سكان الأرياف إلى المدن الصغرى والمتوسطة وأطراف المدن الكبرى، في تجمعات سكانية وسيطة بين الريف والمدينة، وضمن شبكات مجتمعية معقدة – تعلم نسبة عالية من الشباب، من دون توفير فرص عمل – تشنجات مجتمعية تناهض البطركيات الذكورية التقليدية داخل الأسرة الواحدة – تفكك البنى العشائرية التقليدية في بعض المناطق وإعادة تركيبها على شكل شبكات محسوبية جديدة في مناطق أخرى – تأثير السوشال ميديا المتعاظم بما فتحته من كوى على أفكار واتجاهات… إلخ.
كل ذلك أدى إلى ضياع قدرة «أدوات الضبط» التقليدية التي ارتكزت إليها منظومة الحكم، وتفكك حواملها، ما أنتج حالة من الفوضى بين توجه يدعو إلى احتواء الحراك المجتمعي من خلال حزمة إصلاحات بحدٍّ أدنى يواكب مستوى الخطاب السياسي العفوي للمتظاهرين الذي لم يكن وقتها قد تبلور إلى مشروع سياسي تفاوضي له حوامل سياسية على الأرض (وربما حتى الآن)، وتوجه آخر يرى أن الأزمة لا تتعدى كونها حالة تقليدية من تدخل خارجي يركب على حالة محلية، وتتطلب الاستجابة التقليدية من تأزيم للعنف، وانتظار للتفاوض مع المحرك الخارجي.
في الفترة الأولى (يمكن تقديرها بنحو ثلاثة أشهر)، كان القرار المضيّ قدماً على المسارين: حزمة إصلاحات شكلية شملت تعديل الدستور، وقانون الإدارة المحلية، وقانون الأحزاب، وقانون الانتخابات، وغيرها، وعلى المسار الثاني استعمال متناوب للعنف واللين، كيلا تُبنى قراءة واضحة للسياسة المتبعة إلى حين اختبار نيات الأطراف الدولية.
أُعلنت حزمة الإصلاحات باكراً، وتم تشكيل اللجان أو تفعيلها (بعض اللجان كان قائماً منذ بضع سنوات كلجنة قانون الإدارة المحلية)، وشكلت لجنة تقنية لكتابة الدستور من 30 شخصاً، اعتذر أحدهم ليصبح عدد أعضائها 29 خبيراً وخبيرة، وترأس اللجنة الخبير القانوني مظهر العنبري الذي سبق أن ترأس اللجنة المكلفة من قبل القصر بإعداد مسودة دستور 1973 قبل عرضها على اللجنة الرسمية المكلفة من قبل مجلس الشعب وقتذاك.
لم تُعط اللجنة توجيهات واضحة في البدء، ولم تُعط إطاراً زمنياً محدداً لعملها، على عكس اللجان المكلفة بمتابعة باقي عناصر حزمة الإصلاحات التي حظيت بمتابعة شبه مباشرة من القصر.
بدا واضحاً أن تعديل الدستور، وبالأخص المادة الثامنة التي تعطي قيادة الدولة والمجتمع لحزب البعث العربي الإشتراكي سيكون «آخر الكي».
للموازنة بين التوجهين الرئيسين في الاستجابة للأزمة تقرر ألا تقدم حزمة الإصلاحات أي تنازلات حقيقية لم تتم المطالبة بها من قبل شرائح مجتمعية واسعة، وليس فقط من قبل المتظاهرين.
مطلب الإصلاح الذي تحول إلى مطلب «إسقاط النظام» كان مطلباً عفوياً لا يعبر عن خبرة سياسية، ولا عن مشروع سياسي يمكن التعامل معه تفاوضياً.
وُضعت نصوص لقوانين تأرجحت بين الإصلاحات الخجولة، والجريئة، وحتى النكوص إلى الخلف في بعض المجالات. أُصدرت القوانين واحداً تلو الآخر بعد أفرغت من مضامينها الإصلاحية العميقة، واكتُفي بمستوى أولي من التنازلات، على أن تُترك الإصلاحات الباقية إلى حين نضوج مطالب مجتمعية بها، للتفاوض عليها لاحقاً. وبقي الدستور العتيد أشهراً طويلة من دون تقدم حقيقي لكتابة نص جديد، ومن دون حتى أن تجمع اللجنة المكلفة بوضعه.
لم تستطع حزمة الإصلاحات المنقوصة امتصاص الحراك المجتمعي، خاصة أن العنف الذي بدأ بمقدار مدروس في البداية كان قد وصل إلى حالة نزاع مسلح بأبعاد دولية في نهاية العام.
كانت السيناريوهات الممكنة كثيرة، فمثلاً كان من الممكن لإعلان سريع لتعديل دستوري ينص على إلغاء المادة الثامنة أن يقدم خطوة ملموسة لو ترافق بمحاولة حوار جادة.
محاولات الحوار التي اختُبرت في البدايات كانت شكلية، ولم تتطور إلى حوارات موسعة، وجاء العنف المتصاعد ليقطع دابرها ويثبط همة كل من له علاقة بمتابعتها.
تأخُّر الإصلاح الدستوري تطلب في آخر المطاف تعديلات أكثر جذرية في النص. تسويف عملية الصياغة وجمع اللجنة كان من الممكن أن يستمر لأشهر أخرى لولا الضغوط الروسية للإسراع باستكمال الحزمة، حتى ولو شكلياً.
طُلب من اللجنة أخيراً أن تتحرك، وأعلن على الملأ أن النص صار شبه جاهز رغم أن اللجنة لم تكن قد بدأت في الحديث عن المبادئ!
بدا واضحاً من تركيبة اللجنة حجم الخلاف في الرؤى بين أعضائها الذين تراوحوا بين مصلحين جادين، وبين بعثيين تقليديين غير مستعدين للتنازل عن شبر من مكاسب البعث، وبين عدد من الشخصيات اليسارية المعارضة التي أرادت أخذ النص باتجاه المزيد من سيطرة الدولة على الاقتصاد مقابل إطلاق مزيد من الحقوق والحريات.
للبت في الخلافات تم اختيار لجنة مصغرة للصياغة بعد أن نوقشت المبادئ، وكان الرجوع إلى القصر شبه يومي للبت في الخلافات بين التيارات الثلاث.
في آخر المطاف فشل المجتمعون – وبضغط مباشر من القصر – في صياغة أي تعديل للجزء المتعلق بالسلطة الدستورية التأسيسية واحتكارها من قبل مؤسسة الرئاسة، وتفكيك المصلحة المركبة بين برلمان تسيطر عليه أغلبية بعثية تضمن استدامة ترشيح الرئيس، ورئاسة تحمي مصالح تلك الأغلبية (معادلة السلطة الدستورية التأسيسية منذ العام 1971).
في الوقت نفسه، قدّم النص الجديد تعديلات متقدمة في الجزء الثاني من الدستور الذي يعرّف دولة القانون والحقوق والحريات، أو ما يعرف بمنظومة «ريختشتات» بحسب تعرف كارل شميدت (نرجو مراجعة المقال الأول من السلسلة).
لم يُعرض النص الأخير على مجلس الشعب للمناقشة والإقرار كما كان الحال في دستور 1973، وإنما لمجرد الاطلاع.
لم تناقش مسودة مشروع الدستور شعبياً بشكل موسع، ولم تحظَ بجزء مما حظيت به بعض القوانين الأخرى في حزمة الإصلاحات من نقاش إعلامي.
كان واضحاً أن الضغط الخارجي لإنجاز الدستور صار كبيراً. زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دمشق والتقى الأسد في السابع من شباط 2012، بعدها بأسبوع واحد أصدر الأسد مرسوماً بتحديد يوم 26 شباط موعداً للاستفتاء، أُعلنت النتيجة وأُشهر الدستور في اليوم التالي (27 شباط) بمرسوم جمهوري لم يُذكر فيه مجلس الشعب، وبدا واضحاً أن الرئاسة لا تُعلن الدستور الجديد فحسب، بل تُعلن أيضاً أنها صاحبة السّلطة المطلقة في البلاد.
نُشر مرسوم الدستور يومين من الاستفتاء (28 شباط) لكنّه عُدّ نافذاً بدءاً من يوم 27 شباط (يوم إصدار المرسوم وقبل نشره في الجريدة الرسمية خلافاً للمعتاد).
ربما كانت العجالة في التحرك تلبية للضغوط الخارجية سبباً لإلغاء دور البرلمان الطبيعي في مناقشة مسودة الدستور (وليس مجرد الاطلاع عليها)، ولكن بعد قرابة 40 سنة من تكريس سلطة دستورية تأسيسية متمركزة بيد الرئاسة لم تعد هذه السلطة بحاجة حتى إلى شكليات مجلس الشعب التي استخدمتها لشرعنة الدستور القديم.
جاء الدستور الجديد استمراراً للسلطة الدستورية التأسيسية، فهو لم يغير في توزع السلطة، أو في تعريف المؤسسات السياسية. ولذلك لا فارق إذا كان النص قد تضمن إصلاحات عديدة في الحقوق والحريات والمبادئ. الدساتير تتغير بالجوهر فقط عندما تتغير طبيعة السلطة الدستورية التأسيسية فيها، ودستور 2012 لم يغير في تلك المعادلة.
لم يتح لأي من الدساتير السورية أن يطبق بحرفيته لغياب المؤسسات الدستورية الحقيقية القادرة على حماية مبادئها وموادها، والدفاع عنها. بقيت تلك الدساتير بصيغة أسقف معيارية مؤجلة. أوجدت تلك الدساتير بوصفها تفاوضات بين قوى سياسية حقيقية، أو عملية شرعنة أمر واقع من قبل سلطات فعلية ملكت مقادير الحكم بدرجات متفاوتة.
سقطت الدساتير السورية بعد إسقاط قشور التفاوضات على الهويات، تلك التفاوضات التي لم تكن سوى توليفات لا أبعاد قانونية أو سياسية حقيقية لها، وبعد إسقاط جماليات الحقوق والحريات بمفهوم «دولة القانون» التي لم تكن الدولة السورية تملك ترف تطبيقها لعدم قدرتها على توفير الموارد اللازمة لها، أو لضرورات منطق الدولة الذي أجل موضوع الحقوق والحريات مراراً لاستكمال عملية الاستقلال، وبعد انشغال الطبقة السياسية في النزاعات على السلطة عن استكمال بناء المؤسسات اللازمة لتطبيقها.
سقطت الدساتير السورية جميعها، ولم يبق منها سوى تعريفها الهش للسلطة الدستورية التأسيسية الذي شرعن تولي السلطة من قبل نخب سياسية مختلفة ومتناوبة، تارة تمركز السلطة، وتارة توزعها، من دون أن تنجح أي من المعادلات التي صيغت على مدى 13 نصاً دستورياً (بعضها طُبق، وبعضها بقي نصاً مقترحاً) في إيجاد صيغة مستقرة تضمن التوازن بين مصالح وتطلعات القوى المجتمعية المختلفة.
كانت كل عملية صياغة للدستور هي عملية إسقاط لمصالح فئة أو طبقة على حساب الفئات والطبقات الأخرى للاستفراد بالسلطة. بعضها كان يوزع السلطة الدستورية التأسيسية بشكل أولي أوسع قليلاً من بعضها الآخر، لكنها بالمجمل كانت محاولات لاحتكار السلطة من الأعلى، من دون امتلاك للحوامل السياسية من القاعدة التي تحمي تلك السلطة.
اليوم، وإذ تجتمع لجنة دستورية جديدة (مكلفة بطريقة تفاوضية ولكنها كلجنة 2012 لجنة تقنية غير منتخبة) فإن الحديث عن إصلاح دستوري لا معنى له إن لم يطل السلطة الدستورية التأسيسية في الدستور الجديد. للأسف، فإن أغلب مداولات تلك اللجنة حتى الآن لم يتناول سوى شكليات «دولة القانون»، وسرديات الهوية، ونزاعات الإيديولوجيا.
لم تُؤسَّس بعد حوامل سياسية حقيقية تستطيع التفاوض على السلطة الدستورية التأسيسية، وسنبقى غارقين في حلم أن كتابة نص معياري جيد يمكنها أن تغطي النقص في القدرة السياسية على التفاوض.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري