دستور 1950: الأعيان يبددون السلطة التأسيسية بعد الاستقلال
«نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية بإرادة الله ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور لتحقيق الأهداف المقدسة التالية:»…
من مقدمة الدستور السوري العام 1950
أعلنت الدولة السورية استقلالها في أيلول العام 1941 بموجب اتفاق ضمني قبل فيه الشيخ تاج الدين الحسني التكليف برئاسة الجمهورية من شارل ديغول، في ظروف قلقة في خضم الحرب العالمية الثانية مقابل إعلان توحيد الدويلات السورية في إطار سياسي واحد أخيراً.
كان الفرنسييون قد ماطلوا في تصديق اتفاقية 1936، لكنهم اضطروا للقبول بها تحت ضغط الحرب، وحاجتهم إلى كسب مستعمراتهم إلى جانبهم في الصراع ضد حكومة فيشي.
لم يقبل الفرنسييون الشروع في انتخابات برلمانية جديدة رغم ضغوطات بريطانيا، بحجة الوضع القلق الذي فرضته الحرب. ترأس الشيخ تاج الدولة من دون برلمان، وقام بتكليف ثلاث حكومات متتابعة قبل وفاته في العام 1943.
سارعت القوى الوطنية إلى إجراء انتخابات تشريعية جديدة، وانتخب شكري القوتلي رئيساً للبلاد. كان المرشح الأساسي هاشم الأتاسي قد تقدم في العمر، وكان على الرئيس الجديد القيام بجهد كبير لقيادة التفاوض من أجل ضمان الاستقلال الفعلي، وخروج الحاميات الفرنسية من البلاد.
عاد البرلمان بقيادة الكتلة الوطنية لأخذ دوره الدستوري بموجب دستور 1930، ما عرّضه لانتقام شديد من قبل الفرنسيين الذين نقضوا اتفاق الاستقلال، وصبوا جام غضبهم على مبنى البرلمان، وحاميته في أيار العام 1945.
حاجة بريطانيا والولايات المتحدة إلى جبهة عريضة من الحلفاء في النظام العالمي الجديد لمواجهة الدور السوفياتي الناشئ، أضعفت موقف فرنسا، وأجبرتها في نهاية المطاف على سحب آخر قواتها من الأرض السورية في 17 نيسان العام 1946.
كان الاستقلال إنجازاً هاماً للكتلة الوطنية، غير أن تحالف مصالح الأعيان الحلبيين والدمشقيين لإجلاء المستعمر لم يدم بعد إنجاز مهمته الأساسية بتحقيق الاستقلال.
بدأت الصراعات داخل الكتلة الوطنية تظهر إلى السطح عندما قاربت ولاية الرئيس شكري القوتلي على الانتهاء في العام 1947.
أصر أقطاب من الكتلة الوطنية على تجديد انتخاب الرئيس القوتلي رغم نص الدستور الصريح بتحديد حق الرئيس بولاية واحدة فقط، بينما طالبت أقطاب أخرى بانتخاب رئيس جديد، وبنظام انتخابي جديد من مرحلة واحدة للبرلمان، تمهيداً لكتابة دستور جديد للبلاد بعد الاستقلال.
أفضى التفاوض في نهاية المطاف إلى تعديل الدستور للسماح للقوتلي بالترشح لدورة رئاسية ثانية، ولكن بعد تعديل قانون الانتخاب.
جرت انتخابات العام 1947 في جو مشحون، واتهامات بالفساد، وشراء الأصوات. صمدت الكتلة الوطنية في قيادة البرلمان، واستطاعت أن تضمن إعادة انتخاب القوتلي وتشكيل الحكومة، لكن بذور الشقاق أنتجت شرخاً كبيراً بين أعيان حلب، وأعيان دمشق.
تجمع الحلبيون بأغلبهم في حزب ناشئ جديد سموه «حزب الشعب» تيمناً وتذكيراً باسم الحزب الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر، وثلة من المقربين من القيادات الوطنية في بداية عهد الانتداب.
وتجمع الدمشقيون بأغلبهم في «الحزب الوطني»، بعد أن عدلوا اسم الكتلة الوطنية، واضطروا إلى التحرك ضمن إطار حزبي ضيق بعد أن فقدوا جناحاً أساسياً من كتلة برلمانية واسعة صارعت طوال فترة الانتداب من أجل هدف واحد عريض، هو ضمان الاستقلال، ووحدة البلاد.
ومع استثناءات بارزة في صفوف الدمشقيين والحلبيين انقسم البرلمان الجديد وفق خط صدع أساسي، وانقسم ممثلو المناطق المختلفة بين المعسكرين.
أفرز هذا الانقسام حالة من الفوضى والضعف الإداري في الدولة الناشئة، في ظل نظام برلماني لا يملك فيه الرئيس غير دور أخلاقي للموازنة بين أقطاب البرلمان (كونه منتخباً من قبلهم، ولا يملك سوى صلاحيات محدودة)، واستقالت الحكومات واحدة تلو الأخرى، لأن مجلس النواب لا يحوي كتلة برلمانية صلبة تستطيع ضمان الثقة للحكومة.
جاءت حرب فلسطين العام 1948 لتكشف ضعف منظومة الحكم، وبدا واضحاً أن الكتل البرلمانية كانت متمسكة أكثر بمصالحها الضيقة، والاستقواء بتحالفاتها الإقليمية والدولية على بعضها، ولم تتوصل إلى توافق ضمني يضمن الاستقرار، والقدرة على جمع الموارد الضريبية، وشراء السلاح، وتدريب العسكر، ودفع رواتبهم.
يُضاف إلى ذلك انفصال كثير من القوى الشعبية والشبابية عن الأعيان، وبدئهم المطالبة بصوتهم السياسي، واستحقاقهم عن الأدوار التي لعبوها في معركة الاستقلال، ما أضعف مصداقية القوى السياسية التي بقيت في قوامها الأساسي قائمة على الأعيان، وخاصة أعيان حلب ودمشق.
بعد الهزيمة في حرب فلسطين بدا جليّاً ضعف الدول العربية، وحكوماتها الهشة، وقصورها عن مواجهة تحديات الاستقلال وبناء الدول. واتضح أكثر من أي وقت مضى للقيادات الوطنية في الدولة السورية الناشئة أن ما فرطوا به أثناء التفاوض للحصول على الاستقلال قد حرمهم البعدين الاستراتيجي، والإقليمي.
كانوا ببساطة قد تنازلوا كثيراً، وحصلوا على دولة لا تملك مقومات الدولة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
تبادل العسكر والمدنيون الاتهامات في ما يخص أسباب الهزيمة في فلسطين، وفي العمق كان هناك مشروعان لربط الدولة السورية في إطار مشروع إقليمي جديد، وكان خط الشرخ يخترق العسكر والمدنيين على حد سواء.
المشروع الأول بريطاني يدور في إطار تحالف في الهلال الخصيب تقوده بريطانيا من خلال الملكية الهاشمية في العراق، وكان هذا التوجه مناسب جداً للحلبيين الذين تربطهم بالعراق مصالح اقتصادية قوية. أما المشروع الثاني، فمشروع فرنسي لاستعادة النفوذ في المنطقة.
كان كل من المشروعين يفضي إلى دور متميز للكيان الإسرائيلي الجديد في فلسطين، ولكن البريطانيين كانوا يبدون استعداداً للموازنة بين مصالح العرب والإسرائيليين، أما الفرنسين فكانوا يرون في الدور الإسرائيلي دوراً أساسياً لمشروعهم، وباباً خلفياً للعودة إلى المنطقة.
لم تكن الولايات المتحدة قد حسمت موقفها بعد، وكانت تنتظر لترى كيف ستلعب أوراقها في تموضع عالمي جديد قطبه الثاني لم يعد أوروبا، بل المنظومة الشيوعية بجناحيها الروسي والصيني.
كان الهاجس الأميركي الأساسي احتواء الخطر الشيوعي القادم، أكثر من أي مصالح محلية محدودة في المنطقة.
تتالت الانقلابات العسكرية في سوريا، لتميل مرة إلى هذا المشروع، وأخرى لذاك.
جاء الانقلاب الأول بقيادة حسني الزعيم (آذار 1949). ورغم أنه لم يدم إلا بضعة أشهر، فقد غير التاريخ السوري بشكل لا رجعة فيه، إذ فككت القبضة الحديدية للديكتاتور الجديد منظومات عديدة لم يجرؤ المدنيون على المساس بها من قبل، أولها منظومة الأوقاف الإسلامية، وشبكات التمويل والولاء المجتمعي لرجال الدين، وثانيها تفرد الأعيان بمفاصل السلطة، وفتح المجال أمام البرجوازيات المدينية والريفية الناشئة لتتبوأ أدواراً سياسية فاعلة، وثالثها دخول المرأة الحيز العام ،ورابعها قلب النظام البرلماني إلى نظام رئاسي قادر على قيادة الاقتصاد الوطني بطريقة فاعلة، والتفاوض على التخلص من التبعات النقدية والجمركية للانتداب، وخامسها إقرار قانون مدني لإدارة العلاقات التعاقدية بين الأفراد والجماعات خارج إطار الفقه الديني الذي كان معتمداً منذ أيام العثمانيين، بما في ذلك تنظيم الجمعيات والمؤسسات المدنية.
بضعة أشهر كانت كفيلة بقلب الاقتصاد السياسي للدولة السورية، ورغم أنها من الناحية الشكلية أبعدت منظومة الحوكمة عن «الأعراف الديمقراطية»، فإنها في الصميم شكلت تحدياً كبيراً لاحتكار الأعيان موقع السلطة الدستورية التأسيسي عبر سيطرتهم على البرلمان.
لم تصمد السلطة التأسيسية لأعيان المدن الكبرى أمام أول انقلاب عسكري لعدم وجود حوامل حقيقية لتلك السلطة من جهة، ولهشاشة منظومة المؤسسات السياسية المبنية على أحادية السلطة وتمركزها في قطب واحد هو البرلمان.
أجبر حسني الزعيم الرئيس القوتلي على حل البرلمان، وبمجرد حدوث ذلك أُسقط الحامل السياسي الوحيد لرئيس الجمهورية، فسقطت بذلك المنظومة البرلمانية برمتها، واستعاض عنها الزعيم بعدد من الزعامات والقيادات المجتمعية غير المحزبة أو التكنوقراطية، كما قرب إليه عدداً من القيادات الشبابية لتجمعات سياسية ناشئة لا تملك حوامل سياسية، ولكنها قادرة على ربط النظام السياسي بالمجتمع بطريقة لا تقل عن دور الأعيان.
غياب الحوامل السياسية الذي أتاح للزعيم إمساك السلطة كان أيضاً نقطة ضعفه. فبمجرد ما صار الجيش وحيداً في مركز القرار بدون أي ممانعة من الحوامل السياسية التقليدية، صار الانقلاب من داخل الجيش طريقاً مألوفاً للاستيلاء على السلطة، واحتكار السلطة الدستورية.
سقط مشروع حسني الزعيم السياسي لأسباب قد تكون أكثر ارتباطاً بالتدخلات الخارجية منها بالأسباب الداخلية، ولكن انقلابه المجتمعي لزعزعة الاقتصاد السياسي من خلال تعديلات جذرية في بنية القانون السوري صمدت، وأسست لبنية قانونية – إدارية ما زالت آثارها قائمة إلى اليوم، بمحاسنها ومساوئها على حد سواء.
استلم سامي الحناوي الحكم ليعلن بشكل مضمر عن توجه الدولة السورية نحو مشروع إقليمي جديد أميل إلى البريطانيين والعرش العراقي.
لم يتولّ الحناوي رسمياً منصب الرئاسة، بل آثر أن يعيد السلطة نظرياً للمدنيين. لم يستطع هؤلاء الاتفاق على معادلة «استعادة الشرعية» بعد حكم الديكتاتور حسني الزعيم. أعيان دمشق أصروا على العودة إلى نتائج انتخاب سنة 1947 وبرلمانها ورئيسها، بينما أصر حزب الشعب بغالبيته الحلبية، ومساندة الحناوي الضمنية لهم، على انتخابات جديدة للوصول إلى هيئة تأسيسية تكتب أول دستور للبلاد بعد الاستقلال.
رفض الحزب الوطني هذا التوجه، وكان لا بد من حل وسط تسلم بموجبه هاشم الأتاسي إدارة المرحلة الانتقالية بصفة رئيس حكومة، كونه الشخصية الوطنية الوحيدة ذات الموقع الأخلاقي القادرة على الموازنة بين الكتلتين.
جرت انتخابات جديدة في تشرين الثاني من العام 1949 بمقاطعة رسمية من الكتلة الوطنية لم تمنع عدداً من قياداتها من خوضها بشكل إفرادي، وإعادة تجميع تحالفاتهم تحت قبة البرلمان، غير أن حساباتهم لم تكن دقيقة إذ انتزع حزب الشعب أكبر كتلة برلمانية، واستطاع أن يمتلك رئاسة البرلمان، ويوجه الأمور نحو انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً رمزياً للبلاد، مع بقاء دور العسكر من وراء الستار.
غياب التنظيم السياسي للحزب الوطني ترك الساحة فارغة لظهور تجمعات لأحزاب صغيرة. الإخوان المسلمون نقلوا كل ثقلهم إلى دمشق، وبدلت أغلب قياداتهم موطنها إلى العاصمة ليبنوا تحالفاً انتخابياً واسعاً في المدينة، ويكسبوا أغلب أصواتها بالتعاون مع بعض القيادات المسيحية المحافظة، لكن هذا التحالف سرعان ما تبدد عند الشروع في كتابة الدستور.
حاز عدد من الأحزاب الناشئة على عدد من المقاعد البرلمانية، بما فيها حزب البعث بمكوناته غير المتجانسة بين القوميين واليساريين، غير أن أعضاء البرلمان الجديد الذين كانوا ينتمون رسمياً إلى أحزاب سياسية لم يحصلوا مجتمعين على نصف مقاعد المجلس، وبقيت غالبية المقاعد بيد المستقلين من الأعيان المحليين (خاصة أعيان الريف، وشيوخ العشائر).
بدأت المهمة الصعبة لكتابة دستور من قبل مجلس لم يكن يملك من الوحدة السياسية ما يكفي لتأسيس هوية سياسية واضحة لدولة ما زالت تتخبط في المشاكل الموروثة من الفترة الكولونيالية.
وبرغم تصدر حزب الشعب قيادة مجلس النواب، فإنه لم يكن يملك ما يكفي من الأصوات لفرض رؤيته أثناء كتابة الدستور الجديد. وجاءت مهمات إدارة شؤون الدولة عبئاً إضافياً على مهمة الهيئة التأسيسية المتمثلة بوضع نص دستوري توافقي يقود البلاد في مرحلة حرجة من التقلبات السياسية الداخلية والخارجية.
فضلت قيادات حزب الشعب التعاون مع الأحزاب الصغرى بدلاً من بناء توافق مع طبقة الأعيان القريبة من الحزب الوطني.
كُلفت لجنة مصغرة كتابة مسودة الدستور، ضمت اللجنة مزيجاً من الخبرات القانونية والسياسية، من حزب الشعب، والبعث، والإخوان المسلمين، وعدد من الأحزاب الأخرى، والمستقلين.
هكذا أدى الخلاف الجوهري بين مشروعين سياسيين (التحالف مع العراق ومن ورائه الإنكليز، مقابل التحالف مع السعودية ومن ورائها الولايات المتحدة وفرنسا) إلى انقسام الحامل الأساسي للبرجوازية الوطنية. وأدى الشقاق إلى إفساح المجال أمام أحزاب البرجوازية الصغرى للعب دور جوهري في المعادلة السياسية لم يكن متاحاً لولا خلاف أعيان حلب ودمشق، وحزبي الشعب والوطني.
في خضم عملية كتابة الدستور شهدت البلاد الانقلاب العسكري الثالث خلال فترة لا تزيد عن سنة، وتسلم السلطة قائد عسكري جديد ذو ميول أميركية مضمرة، لكن الزعيم أديب الشيشكلي اختار ألا يظهر في الواجهة أول الأمر، وتركها لصديقه فوزي السلو، وبقي الموقف الرسمي للعسكر إفساح المجال أمام المدنيين لحل خلافاتهم، وإنتاج الدستور.
لم تكن الخلافات بسيطة، فمن جهة كانت هناك قضية هوية الدولة ومحدداتها، ومن جهة أخرى كانت هناك القضية الاقتصادية، ومطالبات الأحزاب الصغيرة الناشئة بتوجه واضح نحو الاشتراكية (ضمن محددات مختلفة بالطبع بين رؤية البعث للاشتراكية من طرف، ورؤية الإخوان المسلمين لها من طرف آخر).
كان هناك خلاف جوهري بين المؤيدين لسيادة البرلمان (تخوفاً من دور رئيس جمهورية قوي يقلب موازين القوى لصالح كتلته في البرلمان)، وبين الذين يفضلون التوازن بين السلطات المختلفة، بل وحتى تقييد دور مجلس النواب من خلال اقتراح غرفة عليا، أو مجلس شيوخ.
أمام ضغط العسكر، وتهديدهم غير المباشر بالاستحواذ على السلطة في حال فشلَ المدنيون، توصلت الهيئة التأسيسية إلى توافقات صعبة من خلال تفاوضات أخذت شكلاً علنياً، والاحتكام إلى الشارع في بعض القضايا (مثل دين الدولة، ومصادر التشريع)، وبعضها الآخر نوقش بحدة في اجتماعات مغلقة، ومن خلال وسطاء غير مباشرين (قضايا توزيع السلطة).
في نهاية المطاف أصدرت الهيئة التأسيسية الدستور من دون الرجوع إلى استفتاء، وعلى مسؤوليتها كونها هيئة سياسية منتخبة، فثبتت من خلال الفعل المباشر امتلاك البرلمان للسلطة الدستورية التأسيسية، وقُلصت صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من المجلس إلى الحد الأدنى، ورفضت فكرة الغرفة العليا، وتكرست بذلك سلطة مجلس النواب بوصفه حاملاً وحيداً للسيادة.
أوجدت توليفات توافقية لقضيتي هوية الدولة، ومصادر التشريع بعد جدل مطول لم يُرض القوى المحافظة لأنه لم يتوج بإعلان الإسلام ديناً للدولة، ولكنه أفرز في الوقت نفسه معادلات مختلفة جوهرياً عن المعادلة شبه العلمانية التي كانت سائدة في الدستورين السابقين.
أعطيت القوى اليسارية وعوداً بالتنمية، والتعليم، وحقوق العمال لم تكن للدولة السورية القدرة على تحمل نفقاتها لأن البرجوازيات التي كانت تشكل صلب البرلمان (بما فيها البرجوازيات الصغرى كالبعث والإخوان الناطقين باسم الاشتراكية القومية والاشتراكية الإسلامية) لم تكن قادرة على التوافق على المحلات الضريبية التي ستجبي منها الدولة مواردها.
أصر حزب الشعب على الاحتفاظ بمكاسبه السياسية، فصاغ في آخر نص الدستور مادة تحفظ للهيئة التأسيسية القائمة صفة أول برلمان جديد بموجب الدستور، من دون انتخابات جديدة.
كان واضحاً من خلال مداولات امتدت قرابة 10 أشهر أن التوافقات الضمنية لصياغة دستور يرضي الجميع لم تكن تضمن الاتفاق على حكومة ترضي الجميع.
سقطت الحكومات واحدة تلو الأخرى، بعضها لم يستمر أكثر من أيام، وكان ماثلاً عجز نظام برلماني لا يملك حوامل سياسية حقيقية لتشكيل كتلة وازنة تستطيع رسم سياسة إدارية ومالية ونقدية حقيقية للبلاد. مع ذلك، أصرت الهيئة التأسيسية على تكريس سلطة دستورية بدون رأس حقيقي وقوي يستطيع فرض التوازن بين الكتل الحزبية، ويتوسط بين الحكومة والبرلمان.
الخشية المتبادلة بين البرجوازيات الصغيرة والكبيرة أنتجت دستوراً يكرس السلطة الدستورية التأسيسية في ما بينها في البرلمان، من دون أن يطمئن أيّ من مكونات البرلمان إلى دور الرئاسة.
في نهاية المطاف قرر الشيشكلي الإطاحة بالبرلمان، واستلام السلطة منفرداً.
حلّ البرلمان سحب الشرعية من الحكومة، ومن رئيس الجمهورية المنتخب من قبل البرلمان، في تكرار لما فعله حسني الزعيم مع شكري القوتلي.
إن ارتباط مؤسسة الرئاسة – دستورياً، وواقعياً – بمؤسسة البرلمان، عنى أن إسقاط إحداهما هو إسقاط للأخرى بطبيعة الحال.
هكذا سقطت السلطتان التشريعية والتنفيذية مرة واحدة أمام العسكر، من دون أن تكون لأي منهما سلطة حقيقية، بسبب انغماسهما في شكليات السلطة، بدلاً من فهم حواملها السياسية الحقيقية.
ورغم أن حكم الشيشكلي لم يدم طويلاً، ورغم عودة البرلمان والدستور بعد خروجه من البلاد، فإن العسكر كانوا قد فهموا أن سلطتهم باتت هي الأساس. حتى القوى المدنية في البرلمان فهمت ألا سلطة حقيقية لها، وأن السلطة الدستورية التأسيسية التي صاغتها لذاتها في نص دستور برلماني هي سلطة شكلية لا معنى لها بدون التحالف مع العسكر.
وبدلاً من أن يقف النواب في المجلس المنتخب عام 1955 مع بعضهم لتكريس سلطتهم الدستورية، قررت كل مجموعة منهم التحالف مع عدد من القيادات العسكرية.
تشرذم العسكر، وتشرذم الساسة، ولم يكن من سبيل للتوسط بينهم سوى تسليم الأمور إلى جمال عبد الناصر تحت شعار الوحدة العربية، ولكن بفعل غياب الوحدة السياسية للدولة السورية كان الأمر هروباً من الانقسام السياسي بسبب غياب الحوامل السياسية للوحدة الوطنية، إلى الوحدة القومية التي كان حاملها الوحيد رئيساً كاريزماتياً يتكلم إلى الشعب مباشرة عبر شاشة التلفزيون للمرة الأولى، من دون الحاجة إلى وساطة البرلمانات، والأعيان.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري