أهميّة المحددات الدستورية

الفهرس:

مقدمة

أولًا: التعريف

ثانيًا: محددات موضوع “الجنسية” كمثال:

ثالثًا: بعض أوجه القصور في محددات دستور 2012:

محددات استقلال السلطة القضائية

محددات تفويض السلطة التنفيذية سنّ التشريعات:

محددات تشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات:

محددات حرية الاجتماع والتظاهر والإضراب:

محددات إعلان الحرب والطوارئ والتعبئة:

رابعًا: نماذج لمحددات دستورية في بعض الدساتير:

نماذج من دستور السوري لعام 1950:

نماذج من الدستور المصري لعام 2012:

نماذج من الدستور التونسي لعام 2014:

خامسًا: القضاء الدستوري الفعَّال ضمان لفعالية المُحددات الدستورية:

_________

مقدمة:

يقرّر الدستور المبادئ العامة في موضوع ما، ثم يحيل تفاصيله وتفرعاته إلى قانون تُصدره السلطة التشريعية لاحقًا، وفق هدي المبادئ التي رسمها الدستور. هذا أمرٌ مألوف في صياغة النصوص الدستورية، لأن الدستور بطبيعته، كوثيقة عليا في الدولة، لا يمكنه أن يتسع لكل تفاصيل وفروع المواضيع التي يتناولها، فضلًا عن أنه إذا تناول في نصوصه بعض التفاصيل، وتبيّن عدم ملاءمتها للظروف أو الوقائع المستجدة، فمن الصعب تجاوزها قبل تعديل الدستور نفسه، وستقف هذه التفاصيل (الدستورية) عائقًا أمام المشرّع لملاءمة الواقع بالسرعة المطلوبة، لأن تعديل الدستور يتطلب إجراءات معقدة تستغرق وقتًا، كما هو معلوم، خلافًا لتعديل القانون نفسه. ولذلك فإن من الحكمة وبُعد النظر أن يترك الدستور للمشرّع الخوض في تفاصيل وفروع المسألة التي تناولها الدستور.

ولكن، ماذا لو أصدر المشرّع قانونًا يتجاوز فيه روح الدستور أو إرادة واضعه في مسألة ما؟

في الواقع، يصعب تصوّر أن يرتكب المشرع، مهما بلغت فيه الجرأة، مخالفة صريحة لنصّ واضح في الدستور، فإن فعل المشرع ذلك، فإنّ هذا يُعزى لقصور في النص الدستوري استغله المشرع لتنفيذ هدفه! هذا القصور يتمثل بغياب بعض التفاصيل التي كان يجب ذكرها في النصّ الدستوري، فلا يتمكن المشرع من تجاوزها، هذه التفاصيل هي ما نطلق عليه تسمية (المُحدّدات الدستورية).

أولًا: التعريف:

المُحددات الدستورية: هي تفاصيل ترد بدقّة في بنية النص الدستوري، تعكس اتجاه أو هدف واضع الدستور في مسألة معينة، وتلزم المشرّع باتباعها أو عدم تجاوزها.

ثانيًا: محددات موضوع “الجنسية” كمثال:

إذا تناولنا محددات موضوع الجنسية في الدستور، فإننا نرى أن نص المادة /48/ من دستور 2012 هو: (ينظم القانون الجنسية العربية السورية). ونلاحظ أنه نصّ مقتضب جدًا يخلو تمامًا من أية تفاصيل أو محددات دستورية، وبالتالي فإن واضع الدستور لم يُفصح عن أي اتجاه أو هدف له بموضوع الجنسية، سواء لجهة اكتسابها أو سحبها أو غيره، أي أنه أطلق يد المشرع في إصدار قانون ناظم لهذا الموضوع، يضع فيه ما يشاء من القواعد والمبادئ بدون أية ضوابط أو محددات دستورية. وفي الواقع، اتجاه الدستور في هذه المسألة يتطابق مع العديد من الدساتير المقارنة كالدستور الفرنسي (المادة 34) والهولندي (المادة 2/ 1).

وبالمقارنة مع الدستور السوري لعام 1950، نرى المادة 31/ 1 منه تنص: (تحدد شروط الجنسية السورية بقانون، ويكون فيه تسهيل خاص للمغتربين السوريين وأبنائهم، وأبناء الأقطار العربية)، أي أن واضع ذاك الدستور اهتم بشكل واضح بتسهيل الحصول على الجنسية السورية لفئتين هما: المغتربون السوريون وأبناؤهم، وأبناء الأقطار العربية. وعلى المشرّع في هذه الحالة، عندما يضع قانونًا ناظمًا للجنسية السورية، أن يراعي هاتين الفئتين، فيضع لهما شروطًا أسهل في الحصول على الجنسية من باقي الفئات.

وفي الواقع، تتفاوت الدساتير في المُحددات التي تقرّها في هذا الموضوع، فالدستور التونسي يحظر سحب الجنسية التونسية (الفصل 25)، بينما كان الدستور الإسباني أكثر تحديدًا، عندما نصَّ في المادة 11 على أنه: (لا يمكن أن يُجرد أي شخص وُلد إسبانيًا من جنسيته) بمعنى أنه أطلق يد المشرّع لوضع قواعد في القانون تسمح بتجريد من اكتسب هذه الجنسية بغير الولادة لتجريده منها. بينما سمح الدستور التركي في المادة 66 منه بحرمان أي تركي من الجنسية، في حالة ارتكابه عملًا يتعارض مع الولاء للوطن، ولكنه أجاز له الطعن بقرار الحرمان أمام القضاء.

وهناك دساتير وضعت أحكامًا تفصيلية تتناول هذا الموضوع، كالدستور البرازيلي الذي خصّص الفصل الثالث منه لأحكام الجنسية، حيث تناولها في المادة 12 وما بعدها منه، فميّز بين حالتي اكتساب الجنسية إما بالولادة أو بالتجنّس، وحدد شروط كل منهما، كما حصر حالات سحب الجنسية بالتفصيل.

وعليه؛ إذا ما أراد واضع الدستور وضع محددات لاكتساب الجنسية السورية، كمنحها لمن يُولد من أم سورية مثلًا، فينبغي أن يُذكر هذا المُحدد بكل وضوح في متن النص الدستوري، وإلا كان المشرع في حِلٍّ من ذلك له أن يفعل ذلك أو لا يفعل.

ثالثًا: بعض أوجه القصور في محددات دستور 2012:

يصعب في هذه المساحة حصر أوجه القصور في المُحددات التي كان يفترض إدماجها في بنية نصوص هذا الدستور، وهي مسألة تحتاج بطبيعة الحال إلى دراسات متخصصة ومقارنة على كامل الدستور، ولكننا سنعرض لبعضها فيما يلي:

1. محددات استقلال السلطة القضائية:

نظّم دستور 2012 السلطة القضائية بالمواد 132 وما بعدها، واضعًا لها المُحددات نفسها المذكورة في الدستور السابق عام 1973، وهي:

  • – أقرّ بوضوح أنها سلطة مستقلة، بمعنى أنها مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.
  • – يضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال، ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى، وهو نصٌّ مقتبس من المادة 64 من الدستور الفرنسي لعام 1958.
  • – يَرأس مجلس القضاء الأعلى رئيس الجمهورية، ومن الجدير بالذكر أن مصدر هذه القاعدة أيضًا الدستور الفرنسي لعام 1958 الذي تبنّى في المادة 65 منه مبدأ ترؤس رئيس الجمهورية لمجلس القضاء الأعلى، وينوب عنه وزير العدل، ولكن هذه المادة عُدّلت عام 2008، وأصبح رئيس مجلس القضاء الأعلى في فرنسا هو رئيس محكمة النقض (قسم قضاة الحكم)، بينما يرأس النائب العام في محكمة النقض (قسم النيابة العامة).
  • – القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.

تطرق الدستور إلى أربع محددات، ثم ترك للقانون شروط تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم وطريقة تشكيل مجلس القضاء الأعلى! وأغفل أهم المُحددات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية، وهي حصانة القضاة من النقل والعزل، إضافة إلى تحديد تشكيل مجلس القضاء الأعلى!

وتأتي أهمية النص على هذه المُحددات بالذات في الدستور، بالنظر إلى التغول المستمر من السلطتين التنفيذية والتشريعية على السلطة القضائية، مما يفقدها استقلالها الذي نص عليه الدستور نفسه، حيث يتجلى هذا التغوّل من السلطة التشريعية بقيامها بتخويل السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء، خلافًا للأحكام النافذة وخلال مدة محددة (24 ساعة)، سلطة صرف القضاة من الخدمة أو نقلهم بمرسوم غير معلل وغير قابل لأي طريق من طرق الطعن! كما فعلت سابقًا بالمرسوم التشريعي رقم 40 تاريخ 29/5/1966، والمرسوم التشريعي رقم 95 تاريخ 3/10/2005، ولو نصَّ الدستور على حصانة القضاة من العزل أو النقل، لما قامت بهذا الفعل! الذي لم يمنعه في العام 2005 النص على استقلال القضاء في دستور 1973! ولو نصًّ الدستور في متنه على تشكيلة مجلس القضاء الأعلى، واستبعد من رئاسته وزير العدل باعتباره أحد أشخاص السلطة التنفيذية، لأبطل مفاعيل المرسوم التشريعي رقم 24 لعام 1966 الذي منح لوزير العدل هذه الخاصية! وسمح للسلطة التنفيذية بالتغوّل على القضاء، منذ ذلك الحين حتى الآن.

وبالمقابل، نصَّ دستور 1950 على محددات أكثر وضوحًا، تضمن حدًا مقبولًا من استقلال القضاء، فقضى في المادة 110 بأن عزل ونقل القضاة يكون بقرار من مجلس القضاء الأعلى، وبذلك يأمن القضاة من قيام إحدى السلطتين الأُخريين بهذا الإجراء الذي لا يخلو من عسف، كما نصَّ في المادة 123 على تشكيل مجلس القضاء الأعلى وممن تتألف عضويته، وأعطى في المادة 125 الحقّ لمجلس القضاء الأعلى في اقتراح مشروعات القوانين المتعلقة بحصانة القضاة وأصول تعيينهم وترفيعهم ونقلهم وعزلهم وتأديبهم.

وهناك العديد من الدساتير المقارنة تطرقت في متنها إلى تشكيلة هذا المجلس، كالدستور الفرنسي (المادة 65) والدستور التونسي (الفصل 112) أما بالنسبة إلى ماهية التشكيلة المناسبة لهذا المجلس في الحالة السورية، فهي مسألة تخرج عن نطاق هذا المقال، ونرجو أن نخصص لها حيزًا في المدى المنظور.

2. محددات تفويض السلطة التنفيذية سنّ التشريعات:

على غرار دستور 1973، منحت المادة 113 من دستور 2012 السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية صلاحية التشريع (إصدار مراسيم تشريعية) خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، أو أثناء انعقادها، إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك، ويحق لمجلس الشعب إلغاء هذه التشريعات أو تعديلها بشروط لا تخلو من تعقيد.

في هذا الموضوع، لا بد من معرفة أن تفويض صلاحية التشريع للسلطة التنفيذية كانت من المحظورات في الدساتير السورية السابقة، لدرجة النصّ عليها صراحة في المادة 59 من دستور 1950: (لا يجوز لمجلس النواب أن يتخلى عن سلطته في التشريع)، كما أنه وضع محددًا دستوريًا لافتًا وذكيًا في المادة 43، حيث اعتبر مجلس النواب في (حالة انعقاد دائم) ولم يقر له نظام الاجتماع بدورات، حتى لا تستغل السلطة التنفيذية عطلة المجلس وتصدر مراسيم تشريعية بين دورات الانعقاد، واستعاض ذلك الدستور عن نظام دورات الانعقاد، بأن حدد في المادة نفسها مواعيد معينة يجتمع بها المجلس، وأخرى يحددها رئيس المجلس. وعليه؛ يجب العودة لمحددات دستور 1950 في هذه الناحية، لصعوبة ضبط أي تفويض تشريعي للسلطة التنفيذية، كما ثبت من رصد العملية التشريعية.

3. محددات تشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات:

كفل دستور 2012 ممارسة العمل السياسي والنقابي والمدني، وترك في المواد 8 و45 للقانون تنظيم هذا العمل بدون أية مُحددات دستورية تلجم المشرع، عدا النص بأنه تسهم الأحزاب السياسية المرخصة والتجمعات الانتخابية في الحياة السياسية الوطنية، وعليها احترام مبادئ السيادة الوطنية والديمقراطية، وأنه لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون.

وبالتالي؛ ترك الدستور للمشرع مطلق الحرية باختيار كيفية تشكيل هذه التجمعات بدون أية ضوابط دستورية، ومن المعروف أن المشرع لدينا اختار أسلوب طلب الترخيص المسبق لتشكيل حزب أو جمعية أو نقابة، ضمن شروط بالغة التعقيد لدرجة تعجيزية، مما يقتضي وضع محددات دستورية واضحة بأن يتم تشكيل هذه التجمعات بطريق الإخطار، وعلى السلطة الإدارية، إذا وجدت مخالفة ما، أن تلجأ إلى القضاء لحلّ هذا التجمع.

وهذا ما فعله دستور 1950 في المادتين 17 و18، عندما قرر بأن القانون ينظم طريقة (إخبار) السلطات الإدارية بتأليف الجمعيات والأحزاب، ما يعني اعتماده هذا الأسلوب بتأليف هذين التجمعين، بدلًا من طلب الترخيص المسبق، أما بالنسبة إلى النقابات فترك بموجب المادة 26 كيفية تأليفها للقانون.

وتعدّ المُحددات التي نصَّ عليها الدستور المصري لعام 2012،[1] نموذجية في هذا الشأن، إذ نصَّ في المواد 51 و53، على أن حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب يتم بمجرد الإخطار، وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للسلطات حلّها أو حلّ هيئاتها الإدارية إلا بحكم قضائي؛ وينظم القانون النقابات المهنية، وإدارتها على أساس ديمقراطي، ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة مهنية واحدة، ولا يجوز للسلطات حلّ مجلس إدارتها أيضًا إلا بحكم قضائي، ولا يجوز أن تفرض عليها الحراسة.

في الحقيقة، نشاطر التوجه الدستوري المستقر بترك تشكيل النقابات للقانون وعدم اتباع طريقة الإخطار كما هو متبع ديموقراطيًا في تأسيس الجمعيات والأحزاب، لأن أغلب هذه النقابات المهنية تمنح تراخيص بمزاولة المهنة، ولا يجوز تشكيل أكثر من نقابة لهذه الغاية، ما يقتضي فعلًا الحصول على ترخيص مسبق بتشكيلها.

ومن الجدير بالذكر أن المادة 53 من الدستور المصري المذكور فتحت الباب أمام (المفوضية الوطنية للانتخابات) [وهي هيئة دستورية مستقلة] للإشراف على الانتخابات النقابية، إذ قالت: “يجوز أن يُعهد إليها بالإشراف على انتخابات التنظيمات النقابية”، فضلًا عن اختصاصها بالإشراف على الانتخابات الرئاسية والنيابية والمحلية، ومن المعلوم أن للانتخابات النقابية العمالية والمهنية العلمية حساسية كبيرة في معظم البلدان، نظرًا لنشاط الأحزاب السياسية فيها، وبموجب هذا التفويض؛ يمكن للمشرع أن يعهد لهذه المفوضية بهذه المهمة لهذه النقابة أو تلك.

وفي هذه المسألة، نشير إلى محدد دستوري لافت، ورد في المادة 6 من الدستور الإسباني، يقول: (يجب أن تكون الهيكلية الداخلية للأحزاب، وعملها ديمقراطيًا). وتنبع أهمية هذا المُحدد من أنه لا يمكن لحزب سياسي أن يحكم دولة ديمقراطية، إن لم يكن هو ديمقراطيًا في هيكله ولا يُجري انتخابات على مستوى قيادته، ولا يعقد مؤتمرات حزبية، وليس لديه آليات تكفل تتغير قيادته بطريقة ديمقراطية؟! وبالتالي، يمنح هذا المُحدد الدستوري للسلطات الإدارية الحق في مراقبة الأحزاب، وطلب حلّها أو حلّ مجالس قيادتها، إن لم يكن هيكلها ديمقراطيًا ولم تطبق الديمقراطية بعملها التنظيمي، كما نرى تعميم هذا المُحدد ليشمل الجمعيات والنقابات أيضًا، ولا يقتصر على الأحزاب السياسية فقط.

4. محددات حريّة الاجتماع والتظاهر والإضراب:

من دون أية محددات، كفلت المادة 44 من دستور 2012 للمواطنين حقّ الاجتماع والتظاهر سلميًا والإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور، وتركت للقانون تنظيم ممارسة هذه الحقوق. كذلك نصّ دستور 1950 في المادة 16 على أن للسوريين حق الاجتماع والتظاهر بصورة سلمية ودون سلاح، ضمن حدود القانون. بدون أن يضع أية محددات دستورية لهذا الحق، ولم يتطرق مطلقًا إلى حق الإضراب.

وكذلك فعل الدستور التونسي أيضًا، حيث كفل في الفصلين 36 و37 هذه الحقوق، بدون أية محددات، ولكنه حظر حق الإضراب عن الجيش وقوات الأمن والجمارك، وهو محقّ في ذلك، إذ لا يُتصور أن تمنح مثل هذه المؤسسات مثل هذا الحق الخطير. لكن الدستور المصري لعام 2012 نصَّ في المادة 50 على محددات غاية في الرقي والتميز، إذ منح للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية، بدون حمل سلاح، بناء على إخطار ينظمه القانون، وهذا نهج الدستور الإسباني (المادة 21) والإيطالي (المادة 17)، كما منح الدستور المصري المذكور في المادة نفسها حقّ الاجتماعات الخاصة بدون إخطار، وحَظَرَ على رجال الأمن حضورها أو التنصّت عليها.

5. محددات إعلان الحرب والطوارئ والتعبئة:

نصَّ دستور 2012 على محددات بسيطة، في حالة إعلان الحرب والطوارئ والتعبئة، لا تتناسب مع أهمية وخطورة هذه الحالات؛ فقضى في المادة 102 بأنه يُعلن رئيس الجمهورية الحرب والتعبئة العامة بعدموافقة مجلس الشعب. أما بالنسبة إلى حالة الطوارئ، فالمادة 103 منحت حق إعلانها وإلغائها لرئيس الجمهورية، بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس الشعب في أول اجتماع له، ويبين القانون الأحكام الخاصة بذلك. وهذا يعني أن المُحددات التي وضعها الدستور في حالتي إعلان الحرب والتعبئة العامة هي موافقة مجلس الشعب فقط، أما إعلان حالة الطوارئ، فتتطلب موافقة ثلثي مجلس الوزراء وعرض الأمر على مجلس الشعب، بدون اشتراط موافقته على ذلك وبدون تحديد مدة محددة لها.

أما دستور 1950 فقد كان مقصّرًا أيضًا في هذه المسائل الجوهرية؛ حيث نصَّ في المادة 82 على محدد دستوري لإعلان الحرب من قبل رئيس الجمهورية بقرار من مجلس الوزراء، بعد استشارة مجلس الدفاع الوطني وموافقة مجلس النواب، ولم يتطرق إلى حالة التعبئة، ولم ينصّ في أحكامه على محددات إعلان حالة الطوارئ، لا لجهة صاحب الصلاحية بإعلانها ولا مدتها ولا ضرورة موافقة البرلمان، وإنما ورد بأماكن متناثرة منه محددات عند إعلانها، كالمادة 15/3 التي سمحت بأن يفرض القانون على الصحف والإذاعة رقابة محدودة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة وأغراض الدفاع الوطني عند إعلان الطوارئ.

وفي الدساتير المقارنة، هناك اتجاه عام بضرورة موافقة البرلمان على إعلان حالة الطوارئ وتحديدها بمدة معينة، كالدستور المصري لعام 2012، إذ قضى في المادة 148 بوجوب موافقة أغلبية عدد أعضاء كل من المجلسين التشريعيين على إعلان حالة الطوارئ، وأن يكون إعلانها لمدة محددة لا تتجاوز ستة أشهر، لا تمدد إلا مدة أخرى مماثلة، بعد موافقة الشعب في استفتاء عام. وأنه لا يجوز حل مجلس النواب أثناء سريان حالة الطوارئ.

رابعًا: نماذج لمحددات دستورية في بعض الدساتير:

تحوي الدساتير المقارنة على مُحددات دستورية مختلفة، لم يلحظها الدستور السوري، وهي جديرة بالاحتذاء بالنظر إلى وجاهتها، ونقتطف بعضًا منها لنأخذ فكرة عن كيفية وضع المُحدد في بنية النص الدستوري والغاية منه:

1. نماذج من الدستور السوري لعام 1950:

  • – نصت المادة 9: (…. تجري المحاكمة علنًا ما لم ينص القانون على خلاف ذلك) علنية المحاكمة محدد دستوري مألوف في العديد من الدساتير السورية وغيرها، أُهمل في دستوري 1973 و2012، وهو من ضمانات المحاكمة العادلة ووجوده في صلب الدستور يفترض أن يمنع المحاكمات السرية التي تجريها المحاكم الاستثنائية، كالمحكمة الميدانية مثلًا، ويمكن للمواطنين والحقوقيين الاطلاع على أعمالها، التي لا نعرف عنها شيئًا.
  • – نصت المادة 11: (السجن دار عقوبة، وهو وسيلة لإصلاح المجرم وتربيته تربية صالحة ويكفل القانون تحقيق هذه الغاية)، والمُحدد الدستوري للمشرع هنا أن يضع بحسبانه أن غاية أي قانون أو نظام للسجون هو إصلاح المجرم وتربيته.
  • – نصّت المادة 22/ 1- ب: (يعين بقانون حد أعلى لحيازة الأراضي تصرفًا أو استثمارًا، بحسب المناطق على أن لا يكون له مفعول رجعي). والمُحدد الدستوري هنا حماية حقوق الملكية المكتسبة، وأي تحديد لسقف الملكية يجب ألا يكون له أثر رجعي، وأن يحافظ على ملكيات المواطنين قبل صدور القانون.

2. نماذج من الدستور المصري لعام 2012:

  • – نصّت المادة 168 أن التدخّل في شؤون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم. وهذا مُحدد دستوري فريد له غاية نبيلة، لأن من يتدخل بالقضاء يكون عادة شخصًا متنفذًا مسؤولًا في الدولة، تتعذر ملاحقته جزائيًا، وإلى أن ينتهي نفوذ هذا الشخص وتجوز ملاحقته، تكون الجريمة سقطت بالتقادم. وبموجب هذا المُحدد الدستوري؛ يمكن ملاحقته، مهما امتد الزمن، حتى إذا توفي يمكن ملاحقة التركة بالتعويض المادي. ولا شك أنه يمكن استخدام هذا المُحدد على جرائم أخرى أيضًا، والنصّ على عدم شمولها بالتقادم، كجرائم التعذيب وحجز الحرية وغيرها.
  • – وضع هذا الدستور محددًا حصيفًا يأتلف مع المنطق القانوني، في المسائل التي تحتاج إلى أمر قضائي، بأن أوجب أن يكون هذا الأمر (مسببًا)، لأن تسبيب الأحكام إحدى دعامات العمل القضائي، فإذا اقتصرت وظيفة القضاء على إصدار الأوامر دون أن تتضمن سبب إصدارها؛ فإن ميزان العدالة يختل، وتنتفي الحاجة إلى الهيئات القضائية، وتسبيب العمل القضائي من أهم ما يميز هذا العمل عن العمل الإداري، وفي هدم ضمانة تسبيب الأحكام، هدمٌ للعمل القضائي[2]. ولذلك قرر هذا الدستور، في أربعة مواضع، أن تكون الأوامر القضائية التي نصَّ عليها مسببة، فقال في المادة 35: (فيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد ولا تفتيشه ولا حبسه ولا منعه من التنقل ولا تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق)، وفي المادة 38: (لا يجوز مصادرة المراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال؛ ولا مراقبتها، ولا الاطلاع عليها إلا في الأحوال التي يبينها القانون، وبأمر قضائي مسبب)، وفي المادة 39: (للمنازل حرمة. وفيما عدا حالات الخطر والاستغاثة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها، ولا مراقبتها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبأمر قضائي مسبب يحدد المكان والتوقيت والغرض)، وفي المادة 42: (لا يجوز منع مواطن من مغادرة الدولة، ولا فرض الإقامة الجبرية عليه إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة). وبالتالي فإن هذا الدستور سنَّ سنّة حسنة على النحو السالف ذكره، وهي جديرة بالاقتداء.

3. نماذج من الدستور التونسي لعام 2014:

  • – من المحددات التي لحظها هذا الدستور، عندما نصَّ في الفصل 31 على حرية الإعلام والنشر، أنه توقّعَ فرض رقابة على الإعلام، فحظر أن تكون هذه الرقابة مسبقة قائلًا: (حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات). وبذلك؛ لا مانع أن تكون هذه الرقابة لاحقة، فإذا تبين وجود إحدى جرائم الشتم أو التحقير يلاحق مرتكبها أمام القضاء.
  • – ومن المُحددات الذكية التي لحظها هذا الدستور أيضًا، إسناده دورًا رقابيًا للمعارضة البرلمانية في الفصل 60، حيث أوجب أن تسند إليها مهام عدة في لجان البرلمان، أهمّها رئاسة لجنة المالية، بحيث تكون العين الساهرة على الإنفاق الحكومي، ومن أكفأ من عين المعارضة بمراقبة الحكومة ماليًا؟

خامسًا: القضاء الدستوري الفعَّال ضمان لفعالية المُحددات الدستورية:

لا نخدع أنفسنا ونتوهم أن وجود المُحددات الدستورية سيمنع المشرّع من تجاوزها والالتفاف عليها، لا سيما إذا جاءت بعبارات عامة واسعة، كما هي عادة الصائغ للنص الدستوري، مثل موضوع عدم رجعية القانون من حيث الزمان، المنصوص عليها في المادة 52 من دستور 2012، التي تقول: (لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ولا يكون لها أثر رجعي، ويجوز في غير الأمور الجزائية النص على خلاف ذلك).

ففي نطاق القانون الجزائي، يحظر الدستور نهائيًا تطبيقه بأثر رجعي، كأن يصدر قانون يعتبر سلوكًا ما جريمة، فمن المحظور أن يسري هذا القانون بأثر رجعي، وأن يعتبرَ هذا السلوك جريمة من قبل صدور القانون. أما على سبيل الاستثناء والضرورة، فمن الممكن أن يكون لقانون مدني أو تجاري أثر رجعي.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الدستور المصري لسنة 2012 في هذا الموضوع نصَّ في المادة 223 منه على أن يكون السريان بأثر رجعي في غير المواد الجنائية والضريبية، وإذا نص المشرع على هذا الاستثناء في مواد أخرى غيرها، فيشترط موافقة أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.

ويفسر الفقيه عبد الرزاق السنهوري سبب هذا الاستثناء، قائلًا: (يحرص الدستور على احترام الحقوق المكتسبة، فهو لا يسمح أن تمس في غير ضرورة، فجعل الأصل في القوانين أنها لا تسري على الماضي حتى لا تمس الحقوق المكتسبة، واحترام الحقوق المكتسبة قاعدة تمتد في جذورها إلى أعماق القانون الطبيعي والمبادئ الأساسية للعدالة، حتى إنه لو لم يرد نص هذه القاعدة في الدستور لوجب إعمالها بدون نص.

يجيز القانون -على سبيل الاستثناء وبالقدر الذي تدعو إليه الضرورة- أن يشتمل على نص خاص بالأثر الرجعي، ويلاحظ أن الإسراف في النصّ على الأثر الرجعي في القانون يعتبر انحرافًا في استعمال السلطة التشريعية، بل إن بعض التشريعات تمسّ حقوقًا مكتسبة تنص على وجوب التعويض عنها، وبلغ الأمر بمجلس الدولة في فرنسا أن قضى بالتعويض دون نص. فالقاعدة التي نبسطها هنا هي أن: الإسراف في تقدير الأثر الرجعي [للقانون] يُعدُّ انحرافًا في استعمال السلطة التشريعية.

والأثر الرجعي للتشريع أمرٌ بغيض في ذاته، ولكن الدستور يجيزه استثناء للضرورة، فيجب أن يقدر بقدر هذه الضرورة ولا يجاوزها، وإلا كان فيه انحراف في استعمال السلطة التشريعية[3].

وفي منظومتنا القانونية، من المعتاد أن يصدر المشرع لدينا تشريعات ذات أثر رجعي، وخاصة في المسائل الضريبية، كما فعل مؤخرًا بقانون رسوم الخدمات العقارية رقم (17) لعام 2021، حيث فرض هذه الرسوم على عمليات الانتقال بالإرث، وإن كانت الوفاة قبل صدور القانون بسنوات طويلة، حسب المادة 3/ ج منه!

وفي الحقيقة، مهما كانت محددات الدستور مُحكَمةً؛ فإنها قد تعجز عن كبح جماح المشرع، كما في حالتنا السالف ذكرها، وهذا الأمر يدفعنا إلى التشديد على الدور الرقابي للقضاء الدستوري في هذه الحالة، فهو الذي يقدر فيما إن كان المشرع قد تجاوز حدودًا دستورية، في هذه المسألة أو تلك، وبالتالي فإن وجود قضاء دستوري فعّال أمرٌ مكمل للمحددات الدستورية، والمقصود بالقضاء الدستوري الفعال هنا مسألتان: الأولى طريقة تشكيله، والثانية وجود آلية سهلة ومرنة للوصول إليه.

وفي الختام، نقول إن المحددات الدستورية واسعة جدًا ولا يمكن حصرها، وقد استعرضنا جزءًا يسيرًا منها، بقصد لفت نظر المهتمين إليها، بغية وضعها تحت مجهر البحث والدراسة والتمحيص، وإسقاطها على كامل مساحة المواضيع والمبادئ الدستورية، وهو عمل غير يسير، بلا شك.


[1] آثرنا في هذا المقال المقارنة بالدستور المصري لعام 2012 الذي ألغاه “عبد الفتاح السيسي”، كونه أول دستور بعد ثورة يناير 2011، وضع بطريقة ديموقراطية، ويحوي أحكامًا ومبادئ دستورية مرموقة جديرة بأن تكون مرجعًا يُحتذى.

[2] الدكتور “أحمد أبو الوفا”، المرافعات المدنية والتجارية، ط 1975، ص.8

[3] السنهوري، مقال بعنوان “انحراف السلطة التشريعية”، منشور في مجلة مجلس الدولة السنة الثالثة، 1953.

الكاتب: عارف الشعّال

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى