مئة عام من الدستور: كيف كُتبت الدساتير السورية؟
الدستور لغةَ هو مصطلح مشتق من الفارسية، ويعني: ما هو مسموح. وهو في هذا السياق الأصلي يحدد القواعد التي يتم بموجبها السماح بالقيام بأي عمل.
ظهرت الكلمة بمعناها القانوني ضمن مساعي الدولة العثمانية لتنظيم أمورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تكن مقترنةً أول الأمر بالقانون الأسمى للبلاد، بل بوضع قواعد قانونية واضحة، وإشهارها لتصبح معروفة، وتنظم عمل الحكومة والإدارات من جهة، وسلوكيات المواطنين من جهة أخرى.
وبرغم محاولة كتابة قانون أساسي للبلاد في العام 1867 فإنه لم يحظ مباشرة بتسمية: دستور.
دامت التجربة الأولى سنتين قبل أن يلغي السلطان عبد الحميد الثاني ذلك القانون الذي يحد من حركته ويقيدها، وبقيت المفردة مستخدمة في إطار مغاير بعض الشيء على شكل مجلة دورية تحوي أحدث إصدارات القوانين.
أي أن كلمة «دستور» بقيت في حدود ما تسمح به السلطة، ولا يقيد سلطتها، وهذا ليس بغريب عن أغلب المفاهيم الأولية للدساتير في العصور الوسيطة، تلك التي نتجت عن ضغوط على الحاكم لكي تكون قراراته واضحة، ومعروفة يستطيع الناس التعامل معها، وليس من ضرورة أن تكون قرارات الحاكم مبررة.
اضطر أغلب الأمراء والملوك في سياق التنافس على استقطاب رؤوس الأموال، وحركة التجارة، واستبقائها في إماراتهم وممالكهم إلى إشهار مجموعة من القواعد التي تؤكد أن إماراتهم تحكم بموجب قوانين واضحة، وأن الأمير لن يغير قواعد اللعبة اعتباطياً.
لم تكتسب كلمة «دستور» معناها الحالي إلا في العام 1908 إثر استلام جماعة الاتحاد والترقي للسلطة في الدولة العثمانية، ووعودها بإصلاحات سياسية كان من بينها إعادة تشكيل مجلس نواب عرف باسم «مجلس المبعوثان»، وإعادة إحياء القانون الأساسي للعام 1867 تحت مسمى دستور.
تختلف الأصول اللغوية لكلمة دستور في سياقها المشرقي عن نظيره الغربي.
في السياق الغربي تحمل مفردة «كونستيتيوتو /constitutio» التي هي الأصل اللاتيني للمفردة الفرنسية «كونستيتوسيون /Constitution»، والإنكليزية «كونستيتيوشن /constitution» معنى التأسيس، أو البنية، أو التكوين.
كانت النصوص التي صيغت في البدايات نصوصاً تبين تكوين «المدن-الدول» في العصور الوسطى، لكن بعد الوثيقة العظمى «ماغنا كارتا / Magna Carta» التي صدرت في بريطانيا في القرن الثالث عشر تحولت تلك النصوص إلى عقود بين الحكام وطبقة النبلاء، ثم تدريجياً إلى وثيقة عقدية بين الملك والرعية. لكنها بقيت حتى الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وثيقة تُكتب من ملك يملك السيادة إلى محكومين يملكون القوة الاقتصادية.
غيرت الثورة الفرنسية هذا المفهوم، وحولت السيادة من الملك إلى الشعب، وحولت بذلك سلطة كتابة الدستور من ملك يتنازل لرعيته عبر وضع قواعد للعبة، من ملك يملك صلاحية تبيان بنية القوانين، إلى الشعب الذي صار – نظرياً – مالك السلطة الدستورية التأسيسية.
في بريطانيا كانت ثورة أوليفر كرومويل العام 1649 قد سبقت الثورة الفرنسية، ولكن تجربة كرومويل سقطت لأسباب كثيرة، وتحول الأعيان إلى التفاوض المباشر مع الملك على صلاحيات البرلمان المبني على الأعراف، بدون نص واضح وصريح ينقل تلك الصلاحية للشعب، وتحول المبدأ الدستوري عندهم تدريجياً إلى سيادة البرلمان (الأعيان) مع تقلص قدرة الملك على فرض سيطرته عليهم.
إن القراءة السياسية للدساتير تستوجب معرفة مركز السلطة التي تنتج الدستور، أو ما يسميه المنظر السياسي والدستوري كارل شميدت: السلطة الدستورية (بالمعنى التكويني أو التأسيسي السياسي وليس بالمعنى القانوني أو الحرفي). فمعرفة مركز صنع القرار الدستوري تحدد من هو صاحب الكلمة الفصل في تفسير النص الدستوري، أو تعليقه، أو تعديله، أو سحب النص بالكامل واسترجاع مقر السيادة في العملية السياسية.
ورغم تشبث الكثيرين بنصوص الدساتير على أنها عقود اجتماعية لا يجب الخروج عنها، يجادل شميدت بأن أي دستور بدون قوى سياسية تدافع عنه وتحمي مصالحها عبره يبقى حبراً على ورق يستطيع الحاكم بموجبه استخدامه على هواه.
ويثبت ذلك من خلال دراسة الأزمات الدستورية الأوربية في القرن التاسع عشر وحتى صدور كتاب شميدت عن النظريات الدستورية العام 1927، إذ كان الجدل محتدماً منذ إقرار دستور فايمار العام 1919 (دستور الرايخ الألماني بعد الحرب العالمية الأولى، أو ما يسمى دستور فايمار فيرفاسونج) نتيجة الخلافات على صلاحيات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، ووصول البلاد إلى حالة أزمة دستورية حادة، ففي اللحظات الحاسمة لا تصمد المعايير المثالية أمام القوة السياسية، ولا يمكن لما تسمى «دولة القانون» الدفاع عن القانون!
يعتبر شميدت أن الدستور هو في الحقيقة نصان متداخلان وليس نصاً واحداً.
النص الأول: هو النص القانوني الذي يُعنى بالحقوق، وحماية الأفراد من تغول الحكومة، وهذا يمثل في الغالب الرؤية البرجوازية للدستور بوصفه ضامناً لمصالح تلك الطبقة أمام مصالح الحكام، وهو ما عرف في التاريخ الألماني بـ «ريختشتات / Rechtsstaat» أو دولة القانون.
أما النص الثاني، فهو الجزء السياسي. وهو الذي يحدد طبيعة القوة السياسية التي تشكل كيان الدولة وتحميه، لكنها في الوقت ذاته تفرض هيمنتها عليه. هذا الجزء السياسي من الدستور يتطلب ضمانات سياسية لتوازع السلطة، وتحجيمها، وليس فقط ضمانات قانونية يستطيع الحكام تعديلها، أو تأويلها كيفما شاؤوا.
تتطلب القراءة السياسية للدستور عدم الوقوع في سذاجة المعايير، والبحث والتمحيص عن المؤسسات السياسية التي يرسمها الدستور، وعمّن يسيطر على هذه المؤسسات، ووفق أي آليات تمثيل أو شرعنة.
وفي حين تتشابه الدساتير من حيث النص القانوني (دولة القانون) فإنها تختلف جذرياً في بناها السياسية، وفي من يملك السلطة الدستورية الفعلية، لا السلطة النظرية.
تضيع أغلب عمليات كتابة الدساتير في تفاصيل الهويات، والحقوق، والحريات المعيارية، وتتناسى ماهية السلطة، وأدواتها الحقيقية، لتغرق في الشكليات القانونية لدولة القانون (الريختشتات).
لقد اعتمدت التقاليد الدستورية السورية نصوصاً تكاد تكون متشابهة في ما يخص جزء الدستور الذي يسمى بدستور دولة القانون. وشغل هذا الجزء في الغالب المداولات الرسمية، والنقاشات الشعبية طوال قرن من الزمن، ولا تزال المداولات القائمة حول العملية الدستورية اليوم (عمل اللجنة الدستورية) متمركزة حول شكليات دولة القانون، من دون أن تغوص في الملكية الحقيقية للسلطة التأسيسية، وكيفية بنائها.
سنستذكر في محطات تالية الدساتير الأشهر في التاريخ السوري، بغية توضيح ذلك من خلال طرح سياسي للّحظة الدستورية التي أنتجت كلاً منها، وكيف تكرست السلطة الدستورية (التأسيسية) في كل محطة مفصلية من محطات التاريخ السوري.
الكاتب: أمل بدر
المصدر: صوت سوري